أليكسا فوكوفيتش

 ترجمة: مي اسماعيل

أرض سومر.. مهد الحضارة الانسانيّة بحسب تقييم المؤرخين، أما تاريخها، فرغم كونه محجوبا بالغموض، فما زال مثيرا جداً للاهتمام، إذ يضم ثروة من الاكتشافات الجديدة؛ من أول أنظمة الكتابة إلى التقنيات المعقدة، حتى نشوء أول المدن وقادتها الأقوياء.
أحد أولئك القادة الاقوياء يدعى "إنميباراجيسي- Enmebaragesi"؛ وهو من أوائل القادة الذين ذكرهم التاريخ السومري المدوّن. وكان ملكا على كيش؛ أقدم وأقوى دول- المدينة آنذاك. لكن المعضلة هي عدم وضوح كونه ملكا حقيقيا أم شخصا اسطوريا.. 

الكاهن الذي اعتلى العرش

الملك الول هو "إنميباراجيسي، ويُعرف أحيانا باسم ملك كيش؛ وهي "دولة- مدينة" ذات تأثير كبير في تاريخ وادي الرافدين، وتشتهر بشكل خاص بكونها مركز الملكية المبكرة في سومر.. وهذا الملك هو من أوائل من ورد اسمه في قائمة الملوك السومريين؛ في نص قديم على رقيم طيني يسرد أسماء الملوك السومريين الأوائل وفترات حكمهم، وتضم العديد من حكام كيش. ومن هذه القائمة بالذات عرف العالم اسم هذا الملك؛ ويعتقد أن فترة حكمه امتدت ضمن فترة السلالات السومرية الأولى (2900-2350 ق.م.). من المؤسف أن السجلات التاريخية عن تلك الحقبة شحيحة، والكثير مما يعرفه العالم عن ذلك الملك ورد عبر أجزاء من النقوش والمراجع القديمة التي عثر عليها في قوائم الملوك السومريين اللاحقة. ووفقا للمصادر التاريخية كان إنميباراجيسي ملكا بارزا في كيش، ويوصف بالملك الناجح والقوي. ورغم وروده في نصوص سومرية متنوعة؛ فلم يصل الينا اسمه الاّ في أربعة منها؛ ولم يصفه إلا واحد منها بأنه ملك كيش؛ ضمن نص تضمه اليوم خزائن المتحف العراقي ببغداد. 

حقيقة أم اسطورة؟

حكم إنميباراجيسي الدولة حينما كانت لدولة كيش الهيمنة المطلقة على كل أنحاء سومر، وهو الحاكم ما قبل الأخير لأسرة كيش الأولى. وورد اسمه في قائمة الملوك بأنه حكم لنحو تسعمئة سنة! إذ تضمنت قائمة الملوك ورود أسماء العديد منهم (وبعضهم اسطوريون دون شك) بأنهم حكموا لعدد لا يُصدق من السنوات. فعلى سبيل المثال جاء في القائمة ان "ألانغار- Alalngar " الملك الثاني لأريدو، حكم لمدة 36 ألف سنة! ولكن وفقا للنص التاريخي اجتاح طوفان كبير الأرض؛ وبعده أصبحت عهود الحكم أقصر تدريجيا. 

اعتمادا على حقيقة تأكيد ورود اسم إنميباراجيسي في المكتشفات الأثرية؛ يمكن الاستنتاج بأنه كان شخصية تاريخية، وأن مدة حكمه لم تدم قطعا تسعمئة سنة. وعُدّت النقوش والتدوينات التي تحمل اسمه نقلة توثيقية كبيرة في علم الآثار؛ إذ كانت تحولا من (تدوين) التاريخ الأسطوري إلى التاريخ الفعلي؛ طالما أنه كان أقدم حاكم من قائمة الملوك جرى إثبات اسمه مباشرة في علم الآثار. توجد في المتحف العراقي نسخة من قطعة من مزهرية مصنوعة من الآلاباستر (= المرمر. المترجمة) تعود إلى عصر السلالات المبكرة (حوالي سنوات 2900-2800 ق. م.)، تحمل نقشا جاء فيه: "مباراجسي، ملك كيش"؛ وهو الاسم المبكر الذي كان يُطلق على الملك "إنميباراجيسي". كان النص المسماري المستخدم هنا من الاسلوب القديم؛ مما يضفي المصداقية على تاريخ تدوينه. كذلك ورد إسمه ضمن قائمة الملوك السومريين في نصوص "تومال البابلية القديمة" (= نصوص مكتوبة من بلاد سومر القديمة ضمن عهد الحاكم إشبي إيرا، تسرد أسماء الحكام الذين بنوا المعابد المخصصة للإله إنليل في نيبور ومعابد زوجته نينليل في تومال. وكان من بينهم ملك كيش إينمينباراجيسي. المترجمة). وجاء في تلك النصوص: 

"إينمينباراجيسي

ملك هذه المدينة بالذات (نيبور)

بنى منزل إنليل

وأكا ابن إينمينباراجيسي جعل التومال متميزا." 

من تلك القائمة نعرف ايضا ان كيش خلال فترة حكم "إنميباراجيسي" كانت  لها سيطرة على كامل منطقة شمال بابل وأغلب الجزء الشمالي من مدن بابل الجنوبية، مثل- "نيبور" و"آيسن" و"إريش" وأجزاء كبيرة من منطقة ديإلى. اعتلى "إنميباراجيسي" العرش بعد "إلتاسادوم"؛ وحكم لنحو تسعمئة سنة، ومن المفترض أنه قاد حملة ناجحة ضد عيلام وأسر أخيرا ملك أوروك الأسطوري الثالث، "دوموزيد الصياد" في أوروك

نفسها. 

ملك محارب بالفعل

تذكر قائمة الملوك السومرية ايضا ان "إنميبار اجيسي" هو الذي قام بالسبي حينما سلَب أسلحة أرض عيلام ثم أصبح ملكا. ويؤكد الباحثون الآثاريون أن ملك كيش شن الحرب على عيلام المجاورة؛ وهو أمر مُثبت في علم الآثار؛ مما يؤكد مصداقية وجوده. ومع ذلك، ومهما كان قويا؛ فلم يكن لهذا الملك أن يزدهر إلى أجل لا ينتهي. ووفقا للعديد من النظريات التاريخية؛ فقد تعرض في نهاية المطاف للهزيمة على يد ملك أوروك الاسطوري: "كلكامش"، وخلفه ابنه "أكا". هنا يمكن القول ان "إنميباراجيسي" كان بالفعل شخصية تاريخية ومن أوائل ملوك كيش الأقوياء؛ لكن قوة كيش أفلت سريعا من بعده، وانتقلت بدلا من ذلك إلى أوروك. 

موقع "أنشنت أوريجنز"