مراحلُ طبْعِ الكِتاب : هاجسٌ مُزعج يُؤرِّقُ المُشتغلين في حقول الإبداع
رحيم رزاق الجبوري
لا شيء يضاهي، إحساس الكاتب، وهو يرى مطبوعه بين يديه، بعدما كان عبارة عن مخطوطة، وتحول إلى كتاب ورقيٍّ، مرتديا غلافا جميلا، ومؤطرا بعنوان منمق ومغر، وصورة تزين وتدلُّ على فحوى الكتاب!، غاب هذا الشعور لدى أغلب الذين يرومون طبع نتاجاتهم، بسبب الكلفة العالية، والتفاصيل المعقدة، لذلك الغرض؛ الذي أصبح حلما بعيد المنال؟، فلا تتفاجأ عندما يحدثك أديبٌ، عن مجموعته الشعرية، التي أكملها منذ ثمانينيّات القرن المنصرم، وظلت حبيسة رفوفه.. وذاك القاصّ، الذي يحتفظ بمجموعتين قصصيّتين، في خبايا ودهاليز حاسوبه الشخصيّ، وينتظر مكرمة من منظمة ثقافيّة، تغدق عليه خيراتها وعطاياها، وتبشره بطبعهما؟، نحن أمام مشكلة كبيرة، يجب أن نحل طلاسمها، ولا نجعلها ككرة الثلج؛ تتدحرج، ونحن نتفرّج عليها؟، وكيف لنا بإزاحة هذا الهمِّ الثقيل، الذي سيظل جاثما على صدر الكاتب العراقيّ، يضج مضجعه، ويثبّط من ديمومة إشعاعه، وإبداعه المعرفيّ؟!.
مخاضٌ ونزيفٌ
يُذكّر الروائيّ، مهدي علي أزبيِّن، تجربته الشخصيّة، في هذا المجال، قائلًا: «يلتقط (المبدع) أنفاسه بعد مخاض تسطير مدوّنته حتى استقرارها، ثم ينهم في دوّامة إطلاق منجزه في مطبوع؛ إذْ يتّبع نزيف الوقت، والجهد، نزيفًا آخر يثقل عليه، ويتسبّب باعتلال (جيبه)، لما يلزم الطباعة من كلفة».
وأضاف: «لمْ يخدش التقييم السلبيّ، من أحد فاحصي جهة ثقافيّة؛ فرحتي باستعادة مخطوطتي الأولى، ولمْ أركن لرأيه؛ فقصدتُ دار الشؤون الثقافيَّة؛ وبعد أشهر جاءتني الموافقة على طبع روايتي (هياكل خطّ الزوال) سنة 2009، مع مكافأة نقديَّة، و(100) نسخة. وكرّرتُ زيارتي للدار، بمشروع بحث، فحصلتُ على موافقة طبع كتاب (الشخصيّة في الرواية) بعد فحصه فنيًّا ولغويًّا، مع إهدائي (100) نسخة».
ويكمل: «أمّا تجاربي مع الدور العربيّة؛ فتعدّدت واجهاتها بتكاليفها الباهظة، مقابل إرسال عدد محدود من النسخ، وكي أحصل على كمّيّة أخرى، لا يتردّدون بكلِّ أريحيَّة؛ لكنْ بسعر السوق!، أمّا الدور المحليّة فأغلبها لا شرط لديها، ولا اهتمام لمحتوى الكتاب أو فنيّته، فهو سلعة عاديّة شرطها: ادفعْ.. تطبع!».
ويختم: «تبقى هموم طباعة المنجز الإبداعيّ مركّبة؟، وللتخفيف منها، لا بدَّ من تضافر جهود رصينة تتمثّل بجهاتٍ رسميّة، ونقابيّة، ودور نشر معتبرة؛ تجعل من الكتّاب علامة مهمّة تدلّ على تطوّر المجتمع، لما ينطوي عليه من وعيٍ متقدّمٍ، وجوانب جماليّة متفرّدة».
عقد إذعان
أ.م.د. وسام هادي عگار، يروي تجاربه المتعدّدة، في هذا المضمار، إذْ يقول: «لا شكّ ثمّة مأزق حقيقيّ يقع فيه المثقّف، والكاتب العراقيّ، بعد أن ازداد أمر الطباعة والتوزيع تعقيدًا وإشكاليّة؛ رغم ازدياد دور النشر والناشرين، إذْ يقع ضحيّة بعض دور النشر، الّتي تستغلّ رغبته في طبع كتابه، فتفرض عليه شروطها الّتي يُجبَرُ في الموافقة عليها؛ فيتحوّل الأمر أشبه بعقد إذعان، بالمصطلح القانونيّ. ودليل ذلك تجربتي الشخصيّة في النشر، فعلى الرغم من نشري نحو (13) كتابًا، في تخصّص التاريخ الحديث، فإنَّ (8) منها منشور في الأردن، و(4) في برلين، وكتابًا واحدًا، تبنّته وزارة الثقافة العراقيّة. ويعزى ذلك إلى الشروط المُجحفة الّتي تفرضها دور النشر العراقيّة، ففضلًا عن تقديم الجهد الفكريّ مجّانًا إلى دور النشر؛ إلّا أنّها تستوفي مبالغ طائلة تثقل كاهل المفكّر والباحث، وبالتأكيد هذا أحد أسباب عزوف الباحثين، للنشر في العراق، والذهاب إلى دور نشر عربيّة وعالميّة، لا سيّما أنّها تقدم خدماتها مجّانًا للباحثين».
الأشدُّ إزعاجًا
الروائيّ والقاصّ علي الحديثيّ، يشيرُ لهذه المرحلة، واصفًا إيّاها، بالـ (مزعجة)؟، إذْ يقول: «إنَّ إصدار أيّ كتابٍ، يمرُّ بمراحل. مرحلة الكتابة، وهي خاصّة بالكاتب فقط، ومرحلة الطباعة، وهي الأشدّ إزعاجًا؟ لحاجته إلى مبلغ كبير لطباعته، في دار معتبرة، وهذا يعني أنْ يكون تحت يدك تقريبًا ألف دولار، وهذا أمرٌ قلّة قليلة يستطيعونه، أو تجد دارًا ذات مواصفات أقلّ في الجودة والتوزيع والانتشار، وهذا لا يعفيك من المبلغ أيضًا، بل يقلّله ربّما للنصف فقط».
إحجام
ويضيف: «إنَّ الكاتب الّذي استقطع من وقته وجهده وفكره سنة كاملة ليكتب؛ عليه أن يستقطع الآن من جيبه، ليكون تحت رحمة أصحاب الدور، فعدم وجود الدعم الحقيقيّ له، من قِبَل الحكومة زاد من إرهاقه، فهناك من الكُتّاب من يسكنون بالإيجار، فضلًا عن متطلّبات الحياة الأخرى، ممّا جعلهم يحجمون عن طباعة كتبهم، وهذا ما أنا فيه الآن، فعندي رواية مركونة، ولا أفكّر بطبعها؛ إلّا إنْ وجدت دارًا تتولّى أمر طباعتها».
نصبٌ واحتيال
تقول شيماء عبد الله (قاصّة، وروائيّة): «بعدما قرّرتُ الانفراد بذاتي، وطباعة كتاب خاصّ بي. إذ مررتُ بتجربة صعبة، رافقها القلق والبحث عن السعر المناسب. ولكنْ مع ذلك وقعتُ في مصيدة النصب والاحتيال. من قبل دار عربيّة؛ حيث كُتِبَ في العقد شيء، وطُبّقَ شيء آخر؟ ولمْ أحصلْ على حقوقي؟!».
وتضيف: «طرقتُ باب (الاتّحاد العام للأدباء والكتّاب العراقيّين)؛ لذات الغرض، فوافقوا في البدء، وأبلغوني بالانتظار لحين صدور الموافقة، بعد قراءة المسوّدة؛ ولغاية الآن لمْ يردْ منهم أيّ شيء؟ بعدها لجأتُ إلى دار نشر تطبع بسعر مناسب، يوازي ميزانيتي، فوثقت بها، وطبعتُ عددًا من نتاجاتي الأدبيّة». (ومن الجدير بالذكر، أنَّ الاتّحاد، يقوم بطبع الكتب؛ لأعضائه، بنصف الكلفة، ولغير الأعضاء بتكاليف كاملة، بعد عرض المخطوط، على الخبير المختصّ).
وتكمل: «هذه العراقيل، قد تبعث في نفس الكاتب، الإحساس بعدم الجدوى من الكتابة، أو النشر لعدم توفّر جهة راعية تحفظ حقوق الكاتب الفكريّة والقانونيّة، فدور النشر تمارس الكثير من الألاعيب، فهي تقوم بطبع الكتاب، لأكثر من مرّة، والعائد الماليّ يكون لها فقط؟!».
وتختم: «إنَّ بعض الدور، تعطي النسخ بالمناصفة، بالرغم من أن الكاتب يدفع التكاليف كلها؟ وبعضها تصطادهم، بطلبها مبالغ خياليّة، وهذا قد يسبّب صدمة نفسيّة لهم، ممّا يجعلهم يبتعدون عن هذا المجال. وحاليًا كتبي تقبع تحت سريري، لحين توفّر فرصة جيّدة، لطبعها».
مجهود ذاتيّ
عبّاس عبيد علوان (مُعلّم متقاعد)، ألّفَ (15) كتابًا. يقوم بتنضيد، وتصميم أغلب كتبه بيده، ويرسلها للمطابع، وبذلك يقلّل من الكلف الماليّة، على نتاجاته، إذْ يقول: «عادةً يكون طبْع الكتاب الأوّل مُكلفًا؛ لعدم معرفة الكاتب، بأمور الطبْع وتفاصيله. وعن تجربتي، في هذا المجال؛ بعض الكتب الّتي أطبعها، تباع في المكتبات، وتنفدْ بسبب مواضيعها التربويّة، وحاجة السوق إليها، كونها تخصّ الطالب، وتسهّل فهمه للمادّة الّتي أتناولها. وعليه لمْ أخسر كثيرًا من المال».
تفاصيل وشروط
عامر الساعديّ (مدير دار المتن للطباعة والنشر والتوزيع-العراق/ بغداد)، يحدّثنا عن تفاصيل مراحل طبْع الكتاب، قائلًا: «منذ تأسيس دارنا، وضعنا شروطًا للنشر؛ أهمّها أن يكون المنجز؛ بعيدًا عن الطائفيّة والعنصريّة، وخاليًا من الأخطاء اللغويّة، والإملائيّة، وارتأينا أن نجري مسابقات سنويّة شعريّة خاصّة بالشباب تحفيزًا لهم. فضلًا عن المشاركة بالمعارض، ورفد الكلّيّات، والجامعات العراقيّة ببعض الكتب النقديّة، والأدبيّة».
ويضيف: «بالنسبة للأسعار، تتفاوت من منجزٍ لآخر. بحسب حجمه وعدد الصفحات. فلا يوجد سعر ثابت للكتاب، بسبب اختلاف أجناسها، فالرواية لها الحصّة الكبيرة بالمبيعات، أمّا الحد الأدنى للكتاب، كطباعة، يكلّف (دولارين)، أما إذا كان العدد، أكثر من (500) نسخة؛ فبكلّ تأكيد سيكون السعر أقلّ».
ويكمل: «تعتمدُ الكلفة، على جودة العمل، ونوعيّة الورق المستخدم. فضلًا عن ارتفاع سعر صرف الدولار بالسوق؛ لأنَّ أغلب مواد الطباعة، مرتبطة به». ويختم، مناشدًا ذوي الشأن، بالقول: «لو أنَّ الحكومة وفّرتْ، لنا حصّة من المواد مثل، الورق ومواد الأجهزة، كالأحبار بأسعار مدعومة، كوننا ننتمي إلى اتّحاد الناشرين؛ لكانتِ الأسعار أقلّ كلفة».
آليّة عمل
عمّار صباح شاكر، مدير قسم النشر والتأليف، في (دار الشؤون الثقافيّة العامّة)، يذكر مراحل إنتاج الكتاب، في مؤسّسته، إذْ يقول: «يتم تسلّم المخطوطات بطلب مباشر من المُؤلِّفين، لتتحوّل لاحقًا إلى لجنة التأليف والنشر، والّتي تعقد مؤتمرًا برئاسة، مدير الدار د.عارف الساعديّ، واللجنة المختصّة، لتتمَّ إحالتها إلى خبراء للبتّ فيها، وتحديد المستوى الإبداعيّ لكلّ عنوان (مع ضمان إبقاء اسم الخبير، والمؤلِّف مجهولين لبعضهما).
ويضيف: «تحوّلُ المخطوطات المقبولة، إلى قسم النشر ليدرج ضمن منظومة العمل بشقّيه الأدبيّ، من حيث السلامة، والتنقيح اللغويّ، والفنّيّ، لإخراج المتن الداخليّ إلكترونيًّا، وتصميم الغلاف الملائم، ضمن هوية بصريّة، اعتمدتها الدار لترسيخ شكل مميّز لهيئة كتبها لدى ذاكرة المتلقّي، لينتقل إلى قسم الإنتاج والتحضير الطباعيّ، لإخراجه بشكله النهائيّ».
ويكمل: «كلّ هذه المراحل؛ تتطلّب وقتًا يضمن تقليص هامش الخطأ، بما يليق بسمعة الدار وتاريخها. قد يراها المتلهّف لصدور كتابه؛ تأخيرًا لفرحة يتوق إليها بفارغ الصبر. لا سيّما إذا ما أُخِذَ بنظر الاعتبار كمّيّة العناوين المقدّمة للدار شهريًّا، وما يرافقها من تهيئة، وفرز وفق آليّات دقيقة، مقارنة بحجم كوادرنا».
ويختم: «أوجدنا طرقًا حديثة أسهمت في رفع الإنتاجيّة، ضمنت تحقيق زيادة، أكثر من ٦٦% قابلة للارتفاع عن الخطّة المرسومة لهذا العام؛ ممّا شجّعنا على رسم خطّة حديثة، تهدف إلى تحقيق نمو إضافيّ. مستخدمين أحدث البرامج الإلكترونيّة، فضلًا عن إدخال الأتمَتة، في مضمار عملنا. ويمكن لأيّ متتبّع، أن يؤشّر التطوّر الواضح على المستوى النوعيّ والكمّي لعناوين أُنجِزتْ خلال فترة قياسيّة، امتازتْ بالتنوّع المعرفيّ من شعر، ونقد، وتاريخ، وتراث، وقصّة، وكذلك في حقل السياسة والاقتصاد، وأيضًا في مجال الدراسات البحثيّة الأكاديميّة، والفنون، والدراسات الدينيّة، والعلوم الإنسانيّة كافّة».