تحسين الأوضاع المعاشيَّة

الصفحة الاخيرة 2019/05/07
...

حسن العاني 
يصعب تحديده، ولكنه عام يعود الى تسعينيات القرن الماضي، تلقيتُ في أحد أيامه سؤالاً غريباً من صديقي المرحوم (مراد)، إنْ كنتُ أمتلك نسخة من جريدة (الوقائع العراقيَّة)، العدد كذا بتاريخ كذا، ووجه الغرابة إنه يعرف جيداً بأنني لم أقتنِ هذه الجريدة يوماً أو أقرب منها، ليس انتقاصاً منها، وإنما لكونها بعيدة عن طبيعة اهتماماتي الإعلامية عامة والأدبية خاصة، بينما تُعنى هي بنشر القوانين والقرارات والتعليمات الصادرة عن الدولة ومؤسساتها، وما يلحقها من إضافات وإلغاءات وتعديلات، وكان مراد الذي يعمل رئيس الشعبة القانونية في إحدى الوزارات حريصاً على متابعتها بانتظام، بل إنه كان يحفظ عن ظهر قلب معظم القوانين المهمة الصادرة عن الحكومة أو مجلس قيادة الثورة في ذلك الحين...
بعد شهر تقريباً عن سؤاله، وقد نسيته تماماً، فاجأني وهو يطير سعادة، بأنه استطاع العثور على العدد، وقرأه واستنسخه لأنه لم يحصل على نسخة أصلية من (الوقائع) – كانت مكتبته المنزلية تحتفظ بنسختين من كل عدد- قال لي (عرفت حكاية اختفائها) فأجبته بسخرية (ألف مبارك) ووددتُ مواصلة سخريتي المازحة معه، لولا إنَّ الرجل كان يتلفت من حوله وكأنه يتأكد من خلو المكان، وان لا أحد يستمع إليه، ولهذا التزمتُ الصمت، فيما كان يحدثني بصوتٍ اوطأ من الهمس (الجريدة لم تطبع من هذا العدد سوى أربع نسخ تم توزيعها على الدوائر المعنية بحفظها)، الموضوع أثار اهتمامي، سألته بصوتٍ تحت خط الهمس (لماذا)، ردّ عليّ (لأنه يتضمن أمراً غريباً، وهو صدور قرار من السيد الرئيس حفظه الله ورعاه، يقضي بصرف منحة قدرها ستة ملايين دينار لكبار المسؤولين في الحزب والدولة، ولعلَّ سيادته لم يرغب أنْ تطلع الناس ووسائل الإعلام على القرار) قلت له متسائلاً (أعرف إنك من أنصاره، وتتحاشى توجيه أي نقد له ولو بالإشارة أو التلميح، ولكن أي شيء فعلوا مقابل المنحة، هل حرروا القدس مثلاً، بينما أربعة أخماس منتسبي الدولة لا تزيد رواتبهم على عشرة آلاف دينار، في حين تتعدى – رواتب ومخصصات- من أراد تحسين أوضاعهم المعاشية الملايين) قال لي (باختصار.. لا بدَّ أنَّ قرار سيادته فيه حكمة أكبر من قدرتنا على استيعابها!!).
بعد سقوط النظام انكفأ الرجل على نفسه، وبالمقابل لم يمسسه أحد بسوء، لأنه كائنٌ مسالمٌ وديعٌ، ولم يسئ الى أحد، لم أنقطع عن زيارته وتفقد أحواله، وعادة ما تدور بيننا حوارات بصوتٍ أكثر من مسموع لا نتوانى فيها عن توجيه النقد القاسي أحياناً لأي مسؤول من دون خوف أو محاذير.. سألني مرة (ألم تلاحظ أنَّ نسبة البطالة عالية ورواتب المتقاعدين متدنية، وملايين المواطنين يعيشون تحت خط الفقر بينما رواتب المسؤولين بعشرات الملايين.. لماذا.. هل حرروا القدس؟) أجبته (لعلَّ هذه الرواتب العالية يراد بها تحسين أوضاعهم المعاشيَّة، وقد تكون هناك حكمة أكبر من قدرتنا على استيعابها!!)، أراد أنْ يسأل ولكنني عمدت الى تغيير الحوار، فأنا أحب العملية السياسيَّة وأتحاشى توجيه أي نقد لها ولو بالإشارة أو التلميح...