الوقت واللوجستيات لا يعملان لصالح أوكرانيا
زاكاري يوست وماثيو برايانت
ترجمة: أنيس الصفار
نشأ الأميركيون على صورة المقهور الذي ينتصر على الظالم في النهاية. صورة الثائرين المندفعين بلا تهيب لدحر عدو يفوقهم قوة بإصرارهم المجرّد ونبلهم هي الوصفة الشائعة التي أحبوها في ثقافتهم الشعبية. بيد أن الواقع، لسوء الحظ، يرينا أن الجيوش الافضل استعداداً وعدة هي التي تنتصر عادة على تلك الأقل منها تجهيزاً وعدداً مهما تكن قوة قضيتها. وقد قال الجنرال "عمر برادلي" ذات مرة إن المبتدئين يكثرون من الحديث في الاستراتيجية بينما يتحدث المحترفون في الاستعدادات اللوجستية. وكذا هو الحال في الخطاب الحالي الشائع بشأن الصراع الأوكراني، فهو عادة ما يركز على المآثر البطولية وعدالة القضية أكثر من التركيز على الأمور العملية المتعلقة بالذخائر والقدرات الانتاجية والامكانيات البشرية عموماً.
الذخائر والسلاح والموارد البشرية هي العملة المتداولة في هذا الصراع، والمقومات الثلاثة التي ذكرناها كلها آخذة بالنضوب لدى الكتلة الغربية. لقد دكت طائرات روسيا المسيرة ومدفعيتها وضرباتها الجوية قاعدة أوكرانيا الصناعية دكاً، والتكاليف الاقتصادية هنا فلكية هائلة.
لقد أقر الكونغرس مساعدات دفاعية ومالية لأوكرانيا تقدر بنحو 113 مليار دولار منذ شباط 2022، وهذا أكثر من نصف الناتج المحلي الاجمالي لأوكرانيا.
بدأت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي تعيان هذه الحقيقة الموجعة في كل يوم مع تزايد استنزاف مخزونات السلاح الغربية من دون أن تتوفر طاقة صناعية قادرة على تعويض تلك المخزونات، ناهيك عن مواصلة إمداد أوكرانيا بالسلاح.
عودة حروب الاستنزاف الصناعية
في أعقاب حقبة الحرب الباردة، غدا من الشائع بشكل متزايد بين صناع السياسة العسكريين الإدعاء بأن "الحرب الهجين" قد حلت محل أساليب الحرب التقليدية واسعة النطاق. وقد تحرى "باتريك بورتر" هذا الإدعاء في مقالته التي نشرتها مؤخراً دورية "دراسات الأمن العالمي"، حيث بيّن إن الحرب الهجين يمكن أن تخاض إلى جانب، أو ضد، أطراف تعمل بالوكالة أو لا تتبع لدولة وتستخدم فيها غالباً تكتيكات الحيلة إلى جانب أساليب الحرب السيبرانية والاقتصادية.
ففي العام 2009 استبعد رئيس اركان الدفاع البريطاني آنذاك الجنرال "ديفد ريتشاردز" فكرة أن تكون لدى الصين أو روسيا الجرأة على مواجهة الغرب بالوسائل العسكرية التقليدية، وإدّعى، بدلاً من ذلك، أن ثمة ما يدعو للاعتقاد بأنه حتى اساليب الحرب المباشرة بين دولة وأخرى سوف تبقى مشابهة لتلك التي تشن ضد الجماعات التي لا تتبع لدول، على حد تعبيره. بيد أن نظرة سريعة إلى التاريخ الحديث تكشف لنا بالبرهان القاطع بطلان هذه الاطروحة، كما أثبت
بورتر.
واحد من أوضح الامثلة على هذا النمط من التفكير في التخطيط الحربي يتجلى في اشتراط أن تتوفر لدى أعضاء حلف الناتو مخزونات من المواد والمعدات تكفي لإدامة معركة حامية أمدها 30 يوماً فقط، وهذا التخطيط الاستباقي المتفائل للحرب نموذج رائج بين صناع السياسة في زمن
السلم.
تشير "بربارا توتشمان" في كتابها المعنون: "مدافع آب" كيف راحت الحكومات آنذاك تخزن اكداساً من قذائف المدفعية استعداداً للحرب العالمية الأولى تكفي، بحسب اعتقادهم، لتجاوز فترة الحرب المفترضة. لكن ما إن بدأت أحداث آب 1914 حتى استنزفت مستودعات السلاح لدى قوات الحلفاء وقوات المحور في غضون أشهر لا أكثر، كما ازداد الانتاج المحلي بدرجة
كبيرة.
من السمات المميزة للحرب الحالية في أوكرانيا اعتمادها الساحق على القصف المدفعي المكثف وقوات احتياط ضخمة من المشاة. لذا رأينا الغرب قد أخذ على غرة حين شن حرب استنزاف بالوكالة من دون توفير القاعدة الصناعية التي تؤمن له القيام بذلك. أما على الجانب الآخر فقد كانت صناعة الدفاع الروسية "مصممة وفق أسس الحرب العالمية الأولى"، على حد تعبير "جون ميرشايمر".
"أسلحتنا نفدت"
أقر الرئيس "جو بايدن" بلا مواربة بأن السبب الذي جعل الجيش الأميركي يرسل ذخائر عنقودية إلى أوكرانيا هو عدم استطاعته توفير الكميات المطلوبة من قذائف المدفعية التي تحتاج إليها أوكرانيا. وكشفت تسريبات استخبارات البنتاغون في وقت سابق من هذه السنة أن الولايات المتحدة كانت قد مارست ضغوطاً على كوريا الجنوبية كي ترسل 330 ألف قذيفة مدفعية من عيار 155 ملم إلى أوكرانيا، ربما عبر بولندا. وهناك تقارير تفيد بأن كوريا الجنوبية قد أقرضت الولايات المتحدة نصف مليون قذيفة من العيار المذكور (155 ملم)، لكن حتى لو أرسلت كوريا الجنوبية مليون قذيفة إلى أوكرانيا فإنها لن تعوض خلل التوازن الهائل في سلاح المدفعية. إن خلل التوازن هذا ليس سوى عرض واحد لمسألة أكثر أهمية، هي عجز الغرب عن التحول إلى اقتصاد الحرب.
يقدر تقرير حديث صادر عن "المعهد الملكي للخدمات المتحدة" أن روسيا أطلقت 12 مليون قذيفة مدفعية خلال العام 2022، كما يقدر أن جيشها سوف يطلق سبعة ملايين قذيفة أخرى في العام الحالي 2023، وهذا يمكن أن يشير إلى أن مخزونات الحقبة السوفياتية قد أخذت بالتضاؤل. كذلك يشير التقرير إلى أن روسيا تنتج مليونين ونصف مليون قذيفة سنوياً، إلى جانب الذخائر التي تستوردها من كوريا الشمالية وإيران.
في تباين صارخ قدر "مركز الدراسات الستراتيجية والدولية" في شهر كانون الثاني إن الولايات المتحدة لا تستطيع انتاج أكثر من 93 ألف قذيفة مدفعية من عيار 155 ملم سنوياً، وأن هذا الانتاج يستهلك كله في التمارين والتدريبات. ولو تمكن الجيش من تحقيق جدول انتاج معجّل فإنه سوف ينتج 240 ألف قذيفة سنوياً، وهذا يبقى أقل من 10 بالمئة من انتاج روسيا الحالي. تطلق المدفعية الأوكرانية 8000 قذيفة في اليوم، وهذا معناه استهلاك انتاج الولايات المتحدة الحالي من الذخيرة في شهر كامل. وحتى لو أفلح البنتاغون في بلوغ الهدف المعلن للانتاج، المتمثل بنحو 90 ألف قذيفة شهرياً، بحلول السنة المالية 2025 فإن ذلك ليس سوى نصف مستوى انتاج روسيا الحالي لا أكثر.
أعضاء الناتو الاخرون يعيشون وضعاً أسوأ من هذا الذي وصفناه. ففي شهر حزيران الماضي اكتشف الجيش الألماني أن كل ما تبقى لديه في ترسانته من قذائف المدفعية عيار 155 ملم هو 20 ألف قذيفة لا غير. أما بريطانيا، فهي لا تستطيع انتاج مواسير المدافع من العيارات الكبيرة للدبابات والمدفعية. كميات هائلة من المعدات التي أرسلها حلف الناتو إلى أوكرانيا لم تكن سوى خردة أعيد تلميعها وصيانتها بشكل سيء، وهذا يثير في الذهن تساؤلات حول مستوى الترسانات التي تبقت
لديهم.
في غضون ذلك تم تدمير 20 بالمئة على الاقل من المعدات التي جمعها الغرب وأرسلها على عجل لدعم الهجوم الأوكراني المضاد على خطوط الجبهة الامامية خلال الاسبوع الأول فقط.
بعد كل هذا تبقى أمور كبيرة سببها بناء جيش مجمّع جرت لملمته من المخزونات الاحتياطية الموجودة في أنحاء متفرقة من العالم. المركبات المدرّعة التي تتعرض للتدمير أو التضرر في الجبهة ليس من السهل اصلاحها بسبب المدى الواسع من المواد والصيانة والتدريبات اللازمة لإدامة كل قطعة من تلك المعدات الثقيلة، فمن مدافع هاوتزر عيار 155 ملم وحدها
تستخدم أوكرانيا اربعة عشر نوعاً مختلفاً.
مواجهة حقائق الحرب القاسية
الجمهور في العالم الغربي ليس مطلعاً بدرجة وافية على طبيعة الصراع الذي يدور في أوكرانيا. فالتحليلات المتسمة بالعاطفية على مستوى جزئيات الاشتباكات الفردية هي التي تطغى على مناقشات الوضع الستراتيجي الأوسع. فعبارة مثل "لا شيء تعجز عنه قدرتنا" قد تبدو ذات ايقاع مؤثر لملصق تضعه على مؤخرة سيارتك، ولكنه شعار خيالي حين يتحول إلى ستراتيجية حربية بلا تنفيذ. الواقع على الأرض لا يسمح لنا بالتقدم نحو أي هدف إلا بعد تحمل تكاليف باهظة ندفعها نحن ويدفعها معنا حلفاؤنا الذين يحتاجون إلى مساعدتنا المستمرة.
يجب ملاحظة أن فرصة التوصل إلى تسوية مرضية لأوكرانيا تتلاشى بسبب تلكؤ وصول المعدات العسكرية وتعبئة القوى البشرية. كما إن نقطة الذروة في ضخ المساعدات إلى أوكرانيا قد مرّت، ولن يأتي ما يدانيها خلال الأشهر والسنوات المقبلة، وفرصة التوصل إلى سلام عن طريق المفاوضات، او حتى وقف لإطلاق النار بشروط مواتية لأوكرانيا، ستغدو أضعف احتمالاً كلما تطور الموقف في ساحة المعركة لصالح روسيا.
ربما كان لستراتيجية فرض الضغط على حكومة الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" أن تتقوض داخلياً بعض المصداقية في مراحل الحرب الأولى، ولكن الشواهد الآن ضعيفة على احتمال نجاحها، وتمرد مجموعة فاغنر الفاشل، رغم ظاهره، إنما عزز سلطة بوتين على صانعي القرار في المواقع الأدنى.
اذا ما تواصل جريان الاحداث على هذا المنوال فمن المرجح أن يتداعى موقف أوكرانيا، لأن اختلالات التوازن البنيوية التي تعتري الصراع لن تعززها شحنات متفرقة من الاسلحة والمعدات. ولو أن أوكرانيا امسكت بشمعة لروسيا سيتعين على التحالف الغربي أن يعيد تعزيز سلاسل إمداده في جانب الصناعة العسكرية على نطاق واسع. لكن من المشكوك فيه جداً أن تكون لدى التحالف القدرة أو الرغبة لذلك.
كان المحللون الغربيون يأملون في تحقيق اختراق حاسم من خلال الهجوم الأوكراني الحالي المضاد، غير إنه تبين أن هذه ليست المعركة المحورية كما كانوا يفترضون. القتال في أوكرانيا قد يستمر في زحفه البطيء لسنوات من دون أن تلوح له نهاية واضحة، كما يبدو أن حكومة بوتين تستعد لموجة أخرى من التجنيد الإلزامي وهذا لن يسفر إلا عن تقوية أرجحيات روسيا في ساحة المعركة. وقد ورد في تقرير لمؤسسة "المجلس الأطلسي" للدراسات أن بوتين يستعد لخوض حرب طويلة، وهذه حقائق لم تغب عن بعض كبار المسؤولين الأمنيين السابقين في الولايات المتحدة، على الرغم من كونهم يتفاوضون مع الروس، في تعارض واضح مع إدارة الرئس جو بايدن. فالواقع اللوجستي يتغير ولكن ليس لصالح أوكرانيا، وهنالك شك حول ما اذا كانت لدى الغرب الإرادة للاستنفار بنفس المستوى الذي يستنفر به الروس. لهذا السبب يكون الوقت في جانب موسكو. كما أن صناع السياسة الغربيين الذين يأملون أن الانتظار قد يسفر عن تسوية أكثر ملاءمة عليهم أن يعدوا أنفسهم لصحوةٍ قاسية.
عن مجلة "ذي ناشنال إنتريست"