علي حمود الحسن
الشغف باللغة والكلمات؛ جعل طبيباً أميركياً متقاعداً بربع عقل، يقول لأرملة القتيل: "ان الكلمات صنعت لي جناحين، فوصلت من خلالها الى نهاية العالم"، فالطبيب العسكري ويليام ماينور يعاني اضطراباً سلوكياً، تطارده اشباح ضحاياه من المرتزقة الايرلنديين الهاربين من الحروب، اذ كان يمرر مكواة حرارية على ظهورهم ووجوههم، فهاجر الى بريطانيا وانتبذ مكاناً قصياً، هرباً من ماضيه القذر، فقتل مواطناً انكليزياً بريئاً واباً لستة أطفال، إثر نوبة هستيرية خال فيها الضحية يتعقبه، فادخل المصحة بسبب جنونه، لكن غواية الكلمات جعلته يسهم بشكل فاعل- وهو مكبل بالأغلال- في اصدار قاموس أكسفورد العتيد، بالتعاون مع محرره الأول جيمس موراي (ميل جبسون) وليؤجل جنونه ولو الى حين، أليست العبقرية في بعض تمظهراتها جنوناً، هذا بالضبط محور فيلم " البروفيسور والمجنون" (2019) الذي اخرجه الإيراني فرهارد سامينا ومثل فيه بالإضافة الى جبسون وبن، ناتلي دورمر(زوجة القتيل)، وستيفن ديلان(طبيب المصحة الملتبس)، وجنيفر اهلي(آدا موراي)، فيما ادار تصويره الدنماركي كاسبر توكسين وكتب السيناريو له مخرج الفيلم و تود كومارنيسكي. استهوى كتاب "جراح كراثورن: حكاية القتل، الجنون وحب الكلمات"(1998) لسيم وينشستر ميل جبسون، فاشترى حقوق ملكيته قبل 20عاماً، وهي مغامرة لصاحب" القلب الشجاع"، لكنها متوقعة من ممثل ومخرج يمتلك أسلوباً ورؤية وموقفاً، فحكاية قاموس أكسفورد على أهميتها ورصانتها، لكن انتاجها سينمائياً ليس سهلاً وفق اشتراطات هوليوود، ثم حصل على التمويل في العام 2016 وعرض الفيلم في نيسان الماضي، وكان رهان جبسون على مخرج خبره جيداً ككاتب سيناريو ومساعد مخرج في "ابوكالوبيتو" (2006) و"الام المسيح"(2004) وهذه الأفلام اولت اللغات الاصلية أهمية بالغة، ففي الأول ثمة ترجمة بلغة المايا، والثاني اصر جبسون ان تكون اللغة الآرامية اليهودية والعبرية لغة شخصيات الفيلم، هذا الولع بلغات البشر التي تبلبلت بعد بناء برج بابل في ارض شنعار، استحوذ عليه وجعل حماسه يتنامى لافلمتها، فضلا عن كم الاثارة الذي تضمنها الكتاب، اذ يتحمل سجين مكبل بالأغلال يتعرض لعلاج تجريبي تعسفي على يد طبيب مارزوخي، عبء اصدار واحد من اهم القواميس في عالمنا المعاصر. ثمة خطان سرديان متزامنان، يفترقان في ثلت الفيلم الابتدائي ويلتقيان في ثلثيه الأخيرين، الأول يقتفي اثر مكابدات وليام ماينور، بدءاً من قتله الخطأ لشخص ظنه ايرلندياً يتعقبه ومرورا بتنازله عن راتبه وعلاقته بالأرملة التي احبها واحبته، لكن ضميره اليقظ لا يريد ذلك ما اضطره الى قطع ذكره، وانتهاء بحصوله على دعوة محرر أكسفورد من خلال كتاب اهداه إياه حرس المصحة عرفانا منهم لإنقاذ زميل لهم اجرى له عملية بتر بوسائل بدائية، فهو يحتوي على الدعوة التي كانت خلاصا لعذابات روحه، لينهمك بامداد صديقه بآلاف الكلمات ومعانيها وزمانها وكان سعيدا ومبتكرا، والخط السردي الثاني حكاية عبقري عصامي لم يتحصل تعليما اكاديميا لكنه يعرف الكثير من اللغات الحية والميتة، يبهر لجنة الاختيار ويحقق معجزة أكسفورد المستحيلة، وبين هذين الخطين ثمة تنقلات (فلاش باك) تعزز الاحداث والشخصيات. هذان الخطان المحتدمان لشخصيتين اشكاليتين، تحمل أعباء تجسيدهما ممثلان كبيران قدما اداءً باهرا، وهذا ليس غريبا على شون بن بدوره المركب والصعب، وميل جبسون المدرس العصامي الذي لا يعرف المستحيل، اذ جسدا الصراع الداخلي لإصدار القاموس على الرغم من المعرقلات، وبدت علاقة الحب بين الارملة والمجنون شبه مفتعلة، فقد كان بن انفعاليا في بعض المشاهد ما اوقعه في أداء اقرب الى المسرح، و"لكن ليس على المجنون حرج"، وفي تقديري المتواضع ان المشاهد الافتتاحية التي صورت وليام وهو يطارد ضحيته، هي من اجمل الافتتاحيات الفلمية، اذ صورت الأجواء الكابوسية بإضاءة كافية وكاميرا مهتزة وكادر مضغوط تتخلله تقاطعات لأعمدة وازقة، وبهذا دخلنا في صلب الحياة الملتبسة لوليام ماينور.