خوفٌ سائلٌ.. شخصياتٌ مأزومة في قبضة القَدَر

منصة 2023/09/24
...

  رضا المحمداوي

ثمة ظاهرة فنية اقترنت بالعديد من العروض المسرحية التي شهدناها في الآونة الأخيرة وهي إغفال المؤلف للمبنى الحكائي- القصصي  داخل المتن الدرامي بحيث إن الحبكة المسرحية لا تكشف عن مضمونها أو محتواها على نحو واضحٍ ومكشوف، ومسرحية (خوف سائل) لمؤلفها الشاب حيدر جمعة ومخرجها صميم حسب الله، والتي قدمها منتدى المسرح التجريبي مؤخراً تندرج ضمن هذا النوع أو المستوى من التعامل الفني مع مفردات العمل المسرحي.
 سوائل سيسيولوجية
وبدءاً من العنوان الذي جاء بصيغة النكرة (خوف سائل)، والذي يحيلنا مباشرةً إلى عنوان كتاب (الخوف السائل) لعالم الاجتماع البولندي سيجموند باومان (1925- 2017) وقد لا تصّحُ المقارنة هنا بين الحقلين المختلفين (السيسيولوجيا) و(الفن المسرحي)، لكن يمكنني القول إجمالاً بأنَّ المؤلف:حيدر جمعة قد استفاد من فكرة الخوف المهيمن على الحياة المعاصرة، والتي تصدّى لها (باومان) في كتابه، وأراد (حيدر) أنْ يوظف تلك الفكرة ويستثمرها في بناء مسرحية شبابيَّة بطابعها التجريب الواضح. ولا تخرج طروحات (باومان) في نظريته الاجتماعية عن مفاهيم ومصطلحات (الحداثة) و (ما بعد الحداثة) السائدة الآن في أوروبا وأميركا، ومنها صاغ منطلقات ومرتكزات تلك النظرية بسلسلة من عناوين (السوائل) الاجتماعيَّة المتعددة، ومنها (الحداثة السائلة) و (والأزمنة السائلة) و(والحياة السائلة)، ومنها كتاب (الخوف السائل)، الذي أخذتْ مسرحيتنا عنوانها منه. وتعني السيولة وفقاً لمعطيات (باومان) السيسيولوجية عدم القدرة والإمكانية في السيطرة على ما تشهده الحياة من تطوراتٍ علميَّةٍ وتكنولوجيَّةٍ ألقتْ بظلالها على حياة الإنسان المعاصر وحوَّلت العديد من الأفعال والسلوكيات المستقرة الثابتة (الصلبة) إلى حالةٍ من (السيولة) المتدفقة بتطوراتها المتلاحقة، التي لا يقرُّ لها قرار، باعتبار أنَّ التغيّر هو الثابت الوحيد وغير ذلك فكل شيء مُتحوِّل ومُتغير ولا يثبت على حال، وفي كتابه (الخوف السائل) يتناول (باومان) عدة عناوين وأنماط من الخوف، ومنها الخوف من المستقبل والخوف من المصير المجهول والخوف من الموت والخوف من الشر. وقد تبنّى حيدر جمعه في تأليفهِ لمسرحيتهِ العنوانين الأخيرين ولكنًّهُ شاءَ أنْ يُقدَّمها على شكل (موتيفات)، متفرقة داخل بناء يعتمد الإنتقالات من فكرة إلى أخرى دون أنْ يعمل على صياغة مبنى درامي بهيكليَّة واضحة وغياب تام للمبنى الحكائي الدرامي، وهو الأمر الذي أضاع فكرته الرئيسة عن الخوف ومصادره وأنماطه الضاغطة على شخوصه الأربعة (الزوج والزوجة واثنين من الأولاد)، وهي تعيش في ظل أزمة خانقة تتمثل بالخوف من الخارج ومحاولة البقاء في البيت المنعزل وإغلاق الأبواب المفضية إلى العالم الخارجي، ولذا ترى الأب (يحيى إبراهيم) وهو يحكم إغلاق أبواب البيت، التي سرعان ما تفتح لتدخل منها تلك الكائنات (الوهمية) أو (الشبحية)، دون أن نعرف بالتحديد ما هو مصدر التهديد والخوف الذي تحمله تلك الكائنات أو الشخوص (الممثل أحمد المختار) معها في دخولها إلى ذلك البيت.

شخصيات مهزومة
وإذ تبدأ المسرحية باستهلال صامت لكنه ينتهي بجملة (لقد مات)، وبجملة استفهامية نعرف أنَّ الميت هو الجد ليحملهُ الزوج ويدفنهُ في الجوار، ثمَّ تختفي البنت الصغيرة أو تموت ويحملها الأب ويدفنها هي الأخرى، لنكتشف أن الزوج قد سمح بدخول المجرمين والقتلة إلى بيته، وفي الجزء الأخير يتم التركيز، وإثارة موضوع مواقع التواصل الاجتماعي وأجهزة الموبايل والاتصالات ومنه مكالمة مع البنت الميتة، وداخل هذا الإطار تثار صورة الزوجة العاريَّة، التي أصبحت (ترند)، بعد شيوعها وانتشارها في مواقع التواصل.. وتنتهي المسرحية بأصوات لعلعة الرصاص، والذي قد يكون إيذاناً ببدء اقتتال أهلي أو نزاع عشائري أو إشارة للسلاح المنفلت والمجموعات المسلحة.. فلا شيء واضحًا ولا دلالةً أكيدةً في هذه الخاتمة.
أفكارٌ و(ثيمات) متفرقةٌ وحواراتٌ كان بالإمكان أنْ تأخذ مداها وحضورها في ما لو تم اختيار بناء درامي وهيكل قصصي، ولا بأس لو أنَّ المؤلف اعتمد على إحدى القصص الأدبية أو الروايات واقتبس منها فكرةً محددةً وصبَّ وصهر هذه المعاني والصور في بوتقة واحدة، ويبدو أنَّ المؤلف كان مأخوذاً بهاجس التجريب في عملية التأليف؟ بدت الشخصيات مأزومةً ومهزمةً من الداخل، وحوارها والأداء الجسدي الذي رَسَمَهُ المخرج كان يشي بعصابيَّة واضحة وتوتر وضغط نفسي، ترزح تحته الشخصيات والذي أفقدها لغة التفاهم والانسجام، ليحلَّ محله الاختلاف والتناقض في المواقف وداخل مجموعة الشخوص تبرز شخصة الابن الأعمى (بهاء خيون) المُقيّد بسلسلة حديدية تربطه بأخيه (هشام جواد)، وتعيق حركتهما معاً، في حين أنَّ الزوجة (رضاب أحمد) تقف على الضد مما يجري، لكنها تجد نفسها منساقة وراءه، بينما يقف الزوج ضائعاً في حركته المسرحيَّة والأداء الجسدي والصوتي، وظهر لنا هائماً يدور على نفسه ولا يعرف سوى أنه يجب أن يخاف (ولكن ممَّ يخاف؟)، وكان هدفه الرئيس أنْ يبقى بيته المنعزل آمناً وبعيداً عن مطامع ومخاطر الآخرين، الذين يتربصون به لكن اسرار بيته قد افتضحتْ بواسطة كاميرات المراقبة، التي سربتْ صورة الزوجة العارية؟  قَدَرٌ أسّوَد ثقيلٌ سيطر على البيت وساكنيه، وثمة روح (غيبية) تتحكم به ووجود (شبحي) لشخوصٍ يشكلون مصدر قلق وخوف بالنسبة للعائلة المنكوبة بالموت، الذي اصبح أكثر المفردات حضوراً في ذلك البيت وتلك العائلة الخائفة.
شخصيات خائفة يتربص بهم الشر لكنهم لا يبحثون عن سبيل للنجاة من ذلك الخطر أو مواجهته أو الوقوف بوجهه، إنهم ينغمسون في تلك المعاناة دون أيِّة محاولة للخلاص مما هم فيه أو ما يمكن أنْ يتوقعونه من أخطار وتهديدات.

 التمثيل والسينوغرافيا والإخراج
 جهد إخراجي ذكي، وقدرات تمثيليَّة رائعة كانت بحاجة إلى نص درامي يفجّر كوامنها الإبداعية وخاصةً للثنائي (يحيى إبراهيم ورضاب أحمد)، وقد برزت هذه القدرات والأداء المتقن في بعض المشاهد والمقاطع الحواريَّة، إلا أنها سرعان ما ضاعت وسط الإنقطاعات والإنتقالات الدرامية، في حين انفرد الممثل المجتهد (بهاء خيون)، بأداءٍ متميزٍ سواء بالأداء الصوتي، حيث الأنين وصوت الألم والوجع الداخلي أو بالأداء الجسدي الانفعالي المتوتر الخارجي، وجاء أداء (هشام جواد) منسجماً مع هذا الأداء ومتناغماً معه نفسياً، لقد تمَّ استخدام التصميم الأساسي الثابت وباحة البيت البغدادي القديم لمبنى منتدى المسرح التجريبي، على نحو فني خلّاق ومُبتكر في القراءة الواعية والرؤية الإخراجية لصميم حسب الله، وهو يقود ويحرك شخصياته المحاصرة والمعزولة داخل ذلك البيت القديم وأبوابه المتعددة، بتوافق وانسجام رائع في توظيف سينوغرافيا (علي محمود السوداني)، وسيادة اللون الأسَّود عليها، لا سيِّما الملابس السوداء الموحدة للممثلين، والتي جاءت ملائمة لشيوع حالة التشاؤم والسوداوية والقنوط، وحتى أكفان الموتى المستخدمة، لمْ تكنْ سوى الستائر القديمة البالية فضلاً عن استخدام الإضاءة الكابية والخافتة، وفي ظل هذه الأجواء لم يترك لنا المخرج أيَّة بقعة ضوء للخلاص أو إضاءة للأمل، فقد أحكمَ القَدَرُ قبضتَهُ على تلك الشخوص المهزومة، وبذلك أخلص المخرج لمعنى المسرحية العام، وظل أميناً على ترجمة تلك والأفكار والمعاني إلى صورٍ حركيَّةٍ وجسديَّةٍ، ولمْ يخرجْ عن إطار المسرحية ورسالتها القاتمة.