المعلم نوفل

منصة 2023/09/24
...

  حبيب السامر


من وقت، والحيرة تحاصر يومياته بثوانيها ودقائقها المحصورة بين انبلاج الضوء واختفائه الفيزيائي، يقف بالقرب من نهر صغير يتفرع من شط العرب وينظر إلى طفولته التي أمضاها هناك، يتحسر أحيانا، حين يطيل النظر في النهر الضئيل المنحسر، الذي تكاد ضفتاه أن تطبق على بعضهما، تلاشى كل شيء هناك، غابة النخيل التي يتفيأ تحت ظلالها، ويمارس طقس الدراسة تحت مراوح سعفها، كان يتساءل دائما: أين ذهبت تلكم الأيام الهادئة، الأنيسة، وسط التماعات البراءة في عيون أبناء شارع  البيطرة والشوارع المتجاورة، كانت أبنيتها تقف بالجوار قليلا من مدرسة التنومة، تتكرر لحظات الدهشة وهي ترنو المصائر الشحيحة والمحسوبة في تقاويمه المجهولة.
تتباين وجهات النظر حول مفهوم العمر وسنواته المطوية في ورق أسمر، هناك من يحسبها بمقياس دقيق ويقول: نعد سنواته منذ الصرخة الأولى إلى الصمت الأخير! وهناك من يضع مسطرة السنوات بما يعيشه من تحقيق الأمنيات وحصد ثمار الأيام، فيما يرسم آخر التنويعات بين حزنٍ وفرحٍ ودقائق مشوبة بحذر وقلق بنسب متكافئة لنشطب أيامنا في (روزنامة) الحائط، ونقول: كل ذاك من عمرنا، ونردف: دعونا لا نلتفت إلى الأمس ونفكر بالمقبل من الضوء ليرتق سقوف العتمة التي قهرتنا كثيرا، وسلبتنا زهرة الروح.
حين تعددت محطات الحياة، وقفنا طويلا أمام المرآة كي نرتب ملابسنا المدرسية لنقصد صفوفها الأنيقة، كان معلم الرسم (نوفل) بجسده النحيل وصوته الهامس يمسك فرشاة وهو يلون مدخل (مدرسة الرباط) في نهير الليل، ينظر في ورقة صغيرة، حين يكمل جانباً من الرسم يتراجع خطوات إلى الخلف ليتأمل الرسم مقارنة مع الورقة، كنا ننظر فرحين بجمهرة الألوان وهي تضع النهر باللون الأزرق، كالسماء والمدن تضاء بمصابيح عاداتها وطقوسها وما تشتهر به، كانت البصرة نقطة حب في جنوب الخارطة، يسيل ماء الشط على جهاتها، فتنبت بساتين غنّاء، كل صباح ندخل من بوابة المدرسة نلمح نموًا في الخارطة والمدن تكبر، وحين اكتملت – الخارطة - وضع اسمه صغيرًا جدًا تكاد لا تميزه من الألوان المتدفقة من روح الخارطة، لكننا كنا ننظر إلى معماريَّة هذا الرسم الذي جسَّده من ورقة صغيرة بحجم اليد إلى مساحة كبيرة، كنا نعجب بما نرى، كان مدرس الفنية طويلا وهو يرسم السماء التي تكاد أن تلتصق بجبهته، وينحني للنهر وهو يرسمه.. ثم نغادر تلك الأيام لندخل بوابة في مراحل أخرى، يستقبلنا النهر والشارع الطويل والجامعة التي تغفو على كف التنومة بنخيلها وشوارعها الضيقة وأنهارها الصغيرة المنتشرة على طول طريق ثانوية شط العرب في كردلان، نعبرها وعذوق النخل تلامس رؤوسنا، تتحول الطرق الترابية إلى وحول وأطيان، حين  تنذر السماء بالمطر، ننظر إلى نهر شط العرب والمطر يلاصق انحناءات الموجة تدفعني كلمات أدونيس، وهي ترسم لوحة غرائبيَّة تتجاوز حدود المعقول «لثلاث ليال والسماء تمطر.. حتى كاد وجه البحر أن يتبلل». فعلا، تتمالكنا الحيرة ونحن نلمح اشتباك المطر بوجه الماء، وهو يرسم لوحةً سرياليَّةً من فقاعات تُفزِع هدوء النهر، وفي دواخلنا تشع مدن الخارطة الملونة في مدخل المدرسة.