في زاوية الشارع.. مجلس حبيب صادق في غيبوبة مدينة

منصة 2023/09/26
...

 يقظان التقي

حبيب  صادق تاريخ طويل (1931 - 2023)، متعدد النضالات، تجتمع  في شخصه جغرافية من الخيام إلى قرى ومدن جبل عامل وبيروت. شخصية مدنية/ يساريَّة (تقدميَّة ). سليل احدى العائلات الدينية الجنوبية المرموقة، التي أنتجت شيوعيين ويساريين، أكثر مما أنتجت رجال دين. من جيل كبير من المثقفين الشعراء والكتاب والفنانين والمفكرين الجنوبيين، أولئك الذين تمسكوا بالمجتمع المدني ومقاومة الموجات الطائفيَّة في كل شأن، وفي مواجهة الإقطاعيات وقوى الأمر الواقع والوصايات ، وصولا إلى مقاومة الغزو الاسرائيلي إلى لبنان .
رحل أخيرًا عن عمر اثنين وتسعين عاما، لكنه عاد متأخرا ذاكرة جسر سليم سلام  بعد غياب واكبه فيه مرض السرطان وخضوعه لمعالجات طويلة في الداخل والخارج. ذاع صيته كمثقفٍ يساري منذ سبعينيات القرن الماضي، فاعلية شيعية من أعمال جبل عامل (قضاء مرجعيون – حاصبيا)، ومن المناضلين بوجه المكتب الثاني في ستينيات القرن الماضي، والإقطاع السياسي الذي مثله رئيس مجلس النواب الاسبق كامل الأسعد، وامتدادا إلى نظام الاحزاب ومجالسها السياسية.
رجل عُرف ببلاغته وفصاحته وسرديته الطويلة. أنموذجٌ في الأدب السياسي والاجتماعي. حافظ على تقديره ومثلّ شجاعة في زمنه، محللا بعقلانية/ مفكرا لبنانيَّا تغييريا، محاضرا،  وحاضرا في النقاشات والحوارات الوطنيَّة الطويلة. فشغل طويلًا منصب أمين عام المجلس الثقافي للبنان الجنوبي/ زاوية بيروت (برج ابي حيدر). فصار المجلس فضاءً تقدميًّا على مدار سنين يتسع لندوات ثقافية وسياسية واجتماعية جسدت أصالة انتمائه للأفكار والمقاومة الوطنية ابان الاحتلال الإسرائيلي وللقضية الفلسطينية المركزية .
هو بالجوهر ظاهرة سيادية لبنانية، برزت لاحقا في «مؤتمر البريستول 2004»، وقبله «مؤتمرات الحريات في الكارلتون»، وصولا إلى انتفاضة الاستقلال وسط بيروت. حافظ على تمرده وحضوره وتقديره إلى جانب سمير فرنجية وسمير قصير وجورج حاوي وحكمت عيد. وهو من الذين  تحركوا في الاجتماع الشيعي المفتوح والحديث، مختارًا تعددية المجتمع وتقدمية البلاد على المجتمع المغلق. كانت أبرز مساهماته اطلاق «المنبر الديمقراطي» في بيئة المناخ المدني واليساري. ثمّ هو صاحب تجربة دينامية في الحيز العام الذي شكلتها مجالسه بين العامين 2000 و2005، وجمعت أطياف واسعة من أعلام الثقافة والسياسة والاعلام والتربية والاجتماع والفنون، مع كل ما يرمز اليه من أصالة جنوبية ولبنانية وعربية، وما له علاقة عميقة بالقضية الفلسطينية. كان كل ما جسده تطلعا إلى الورد الريادي الجنوبي المساهم في ارساء دولة المواطنة والحداثة والعدالة الاجتماعيَّة.
قد  يؤخذ عليه أنه صاحب تجربة برلمانيَّة متنافذة ومتناغمة مع السلطة. كاد يخرق في انتخابات 1972 ضد لائحة الرئيس كامل الاسعد ، مرورا إلى دورة وحيدة أوصلته إلى البرلمان في لائحة التحالف مع الرئيس بري عام 1992(اتفاق بعد الاختلاف). لكن  سرعان ما انتهت الأمور بالتباعد والتنابذ بعد حركة التحالف الرباعي، والاكتفاء بدور سياسي من موقع وطني بعيد، وفي تواصل مشوش مع الأحداث. كان من جيل يمثل الهوامش المتفائلة، وأنصفته أكثر علاقته المضيئة بالثقافة والممارسة السياسية المستقلة من اجل الانتصار للحريات العامة والديمقراطية.  
في تلك الغرفة في برج (أبو حيدر)، على جسر سليم سلام، تتحرك ذاكرة مرور يومي إلى تاريخ من الندوات واللقاءات في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، وسجل من المبادرات الوطنية والمدنية. كان «الحبيب» في تلك الغرفة على الكنبة، اشخص حقيقيا / لطيفا/ مناضلا أكمل دوره كمتغير مستقل في ظل النظام اللبناني وانقساماته. يمكن اعتباره شخصيَّةً متمردةً (الثمانينيات) في قرن الأديان أكثر من الأيديولوجيات. تفتقد أنت العابر إلى مدينة الغيبوبة والفراغ، إلى زمن منسجم مع ذاته. هذا الحنين إلى الذين كانوا (جميلين)، يعرفون كيف يدخلون إلى الأفكار والصداقات، وصاروا لاجئي الحنين بين زمنين.