زعيم الزولو آخر رجال العهد العُنصريّ
موقع {بي بي سي}
ترجمة: مي اسماعيل
كان الزعيم "مانجوسوثو بوتليزي" (الذي توفي مؤخرا عن 95 عاماً) شخصية سياسية بارزة في جنوب أفريقيا، ووصفه الرئيس "سيريل رامافوزا" بأنه.. "قائد متميز". فخلال حقبة التمييز العنصري كان بوتليزي رئيس وزراء "كوازولو بانتوستان"، وهي منطقة شبه مستقلة خصصتها حكومة التفوق الأبيض لشعب الزولو في جنوب أفريقيا.رأى الكثيرون في رئاسته تلك أنها نظام دمية، يعتمد على دولة جنوب أفريقيا في السلطة، ولا يتسامح مع المعارضة السياسية ويهيمن عليه حزب "أنكاثا" للحرية، وهو الحزب الذي أسسه عام 1975.
وجد بوتليزي قضيّة مشتركة مع حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" في الصراع ضد التمييز العنصري، وكانت له حملة لإطلاق سراح "نيلسون مانديلا". لكنه عارض ذلك الحزب في موقفه من العمل المسلح والعقوبات الدوليَّة، بحجة أنها أضرّت بالسود في جنوب إفريقيا. خاف بوتليزي على تآكل نفوذه خلال المرحلة الانتقالية إلى ديمقراطية التعدد الحزبي في جنوب أفريقيا، وطالب بنظام حكومي أكثر فيدرالية، وضمانات باحترام وضع قادة الزولو التقليديين. لكن حزب مانديلا رفض ذلك، مما ادى لمواجهات عنيفة أوائل التسعينات بين حزب إنكاثا وأنصار مانديلا راح ضحيتها نحو اثني عشر ألفا، وهي مواجهات يسود الاعتقاد انها كانت بتحريض من حكومة التفرقة العنصرية. خاف البعض أن يقود العنف إلى حربٍ أهلية، لكن بوتليزي انضم في نهاية المطاف إلى حكومة مانديلا للوحدة الوطنية عام 1994، وشغل رغم استمرار التوترات منصب وزير الشؤون الداخلية لمدة عشر سنوات.
كافح حزب إنكاثا "IFP" لتوسيع نطاق وصوله السياسي لأبعد من قاعدة قوته بين الزولو، وهم أكبر المجموعات العرقية في البلد، لكن بوتليزي نجا من محاولات الإطاحة به من قيادة الحزب. وأخيرا استقال من منصب رئاسة الحزب عام 2019، ليكون واحدا من أعظم الناجين من سياسة جنوب إفريقيا، وأحد القادة القلائل في الأوطان القديمة التي تتمتع بحكم شبه ذاتي والذين تكيفوا مع حقبة ما بعد الفصل العنصري.
قبضة من حديد
ولد مانجوسوثو بوتليزي عام 1928، جنوب شرق المنطقة التي كانت تُعرف حينها بــ"زولولاند". كانت والدته الاميرة " ماجوجو كادينوزولو"، وهي أخت ملك الزولو حينها ومغنية مشهورة للأغاني التقليدية. رتّب الملك لزواجها من والد بوتليزي، وهو زعيم قبيلة قوية، لرأب صدع وقع بين العائلتين. وفي سن الرابعة عشرة قيل لبوتليزي أن والده مات.. نُقل الصبي إلى منزل العائلة، ووفقا لتقاليد الزولو قام بطعن الأرض برمح، ليكشف عن المكان حيث يجب حفر القبر، وأعلن عن ميراثه بصوت عال. تلقى بوتليزي تعليمه في كلية "آدمز"، وهي مدرسة تبشيرية معروفة قرب ديربن، وحينما بدأ تعليمه الجامعي عام 1948 في "إيستيرن كيب"، جرى انتخاب "الحزب الوطني" وبدأ تطبيق نظام الفصل
العنصري.
انضم بوتليزي لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، واحتج ضد النظام الجديد مع نيلسون مانديلا و"أوليفر تامبو". تسبب حماسه السياسي بطرده من الجامعة، لذا عاد إلى كوازولو ناتال ليتولى مهامه رئيسا لعشيرته. تزوج من "إيرين"، وهي طالبة تمريض من جوهانسبيرغ. وبينما قيل أنه كان لوالده نحو أربعين زوجة، رفض الزعيم الجديد ذلك بوتليزي المبدأ، لكونه مسيحيا انجليكانيا. عينه الملك "سيبريان" رئيسا تقليديا للوزراء.. وكان ذلك منصبا قويا يشغله عادة أحد أفراد عائلة بوتليزي.
وبعد ذلك بعقد من الزمن ظهر في فيلم "الزولو" (سنة 1964)، حيث أدى شخصية جده الأكبر الحقيقي الملك "سيتشوايو كامباندي" (ملك مملكة الزولو وقائدها خلال حرب الأنجلو- زولو في 1879، توفي عام 1884. المترجمة) في معركة روريكس دريفت. بحلول ذلك الوقت كانت سلطة البانتو الأولى قد أُقيمت، وجرى اختيار بوتيليزي رئيسا تنفيذيا لكوازولو (اقليم الناتال الساحلي)، ووضع الدستور الجديد كل السلطات التنفيذية في يده، فانتقل الملك إلى دور بروتوكولي إلى حد كبير. أسس بوتيليزي قاعدة سلطته الذاتية بتأسيس حزب أنكاثا، ظاهريا- للسعي من أجل حقوق الزولو غير القابلة للتصرف والتعبئة ضد الهيمنة البيضاء، ولكن بدعم من حزبه الجديد، حكم بوتيليزي "بقبضة من حديد". أصبحت عضوية الحزب أمرا شبه إجباري لمن لا يريد أن يفقد وظيفته، وتولى رئيس الوزراء شخصيا مسؤولية الشؤون المالية لبلاده والسيطرة المطلقة على
الشرطة.
خلاف مع حزب المؤتمر الافريقي
رفض بوتيليزي طوال فترة الفصل العنصري القبول بالاستقلال (الاسمي إلى حد كبير) الذي عرضته حكومة جنوب أفريقيا على مجموعات شعب البانتو، مُعلنا: "جنوب أفريقيا دولة واحدة، ولها مصير مشترك". ساءت علاقة بوتيليزي بقيادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي أواخر السبعينيات، بسبب تحالف الأخير مع الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي، بينما كان بوتيليزي معارضا شديدا للشيوعية. واحتج بشدة ضد العقوبات الاقتصادية على جنوب أفريقيا، مُصرا أنّ من مسؤولياته ضمان طعام واحتياجات الأطفال السود.
ورغم أنّ رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر أشادت ببوتليزي على نهجه ذاك، لكن بعض ناشطي حزب المؤتمر وصفوه بأنه.. "خادم الحكومة" الذي كان "يعيش في جنة الحمقى"! لكن بوتليزي وحزب المؤتمر وجدا هدفا مشتركا لهما بعد سجن مانديلا. كان ببوتليزي جادا في حملته لتحرير مانديلا، وزعم لاحقا أنه المسؤول الوحيد عن إطلاق سراحه. لكن المصادمات بين الحزبين تعاظمت قبل تنظيم أول انتخابات حرة، وزعم بوتليزي (حتى وفاته) أن الطرف المقابل هو من أجج العنف، لكن دلائل تكشفت لاحقا أظهرت ان حزب أنكاثا تلقى دعما عسكريا من جنوب أفريقيا لتمويل فرق الاغتيال.
شخصية معقدة
ألزم دستور جنوب أفريقيا الجديد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الفائز بالانتخابات بتشكيل حكومة متعددة الأحزاب، كنوع من أشكال تقاسم السلطة الانتقالية. ونتيجة لذلك جرى تعيين بوتليزي وزيرا للشؤون الداخلية، كما قام أحيانا بمهمات رئيس الدولة عند سفر مانديلا. احتفظ بمنصبه بعد انتخابات عام 1999، لكن العلاقة مع حزب المؤتمر الافريقي بدأت تتهالك، ووقع خلاف حول قوانين الهجرة الجديدة انتهى باتخاذ الرئيس "ثابو مبيكي" (الرئيس الثاني لجنوب أفريقيا بعد نيلسون مانديلا. المترجمة) اجراءات قانونية ضد احد وزراء حكومته. وعن ذلك قال بوتليزي لاحقا: "لست على علم بأي سابقة عالمية لم يرفع فيها الرئيس دعوى قضائية ضد وزيره فحسب، بل ذهب إلى حد محاولة الحصول على أمر بالتكلفة ضده بصفته الشخصية".
بعد انتخابات عام 2004 عاد حزب إنكاثا، الذي أعيدت تسميته "حزب الحرية إنكاثا -IFP" إلى مقاعد المعارضة، وبعد خمس سنوات خسر أرضيته الانتخابية أمام الزعيم الجديد لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي: "جاكوب زوما" الذي كان هو أيضا من الزولو. وحين دعت حركة شباب الحزب في كوازولو ناتال إلى تغيير القيادة، وجدت نفسها مطرودة! وأخيرا أعلن الزعيم بوتليزي عام 2019 إنه لن يسعى لإعادة ترشيح نفسه لرئاسة الحزب، وتنحى بعد 45 عاما في المنصب. لكنه بقي عضوا في برلمان جنوب أفريقيا ورئيس الوزراء التقليدي لإقليم لكوازولو ناتال. وفي عقده التاسع كان شخصية محورية في معركة خلافة عائلة الزولو المالكة، التي أعقبت وفاة الملك "زويليثيني"
عام 2021.
كان الزعيم مانجوسوثو بوثيليزي شخصية معقدة.. إذ كان متفاخرا ومثيرا للجدل ومتقلب المزاج، وقد اشتهر بخطبه البرلمانية المطولة، وكانت إحداها مكونة من 427 صفحة واستغرق إلقاؤها أكثر من أسبوعين. له شخصية مخيفة، وقيل إنه.. "قادر على التحول من الجاذبية الجامحة إلى العدوانية القاسية". لكن مسيرته خلال سنوات الفصل العنصري هي التي لا تزال تقسم جنوب أفريقيا.. فبالنسبة لمؤيديه، بذل الزعيم بوتيليزي قصارى جهده لحماية شعبه، بينما كان يعمل على تقويض نظام
شرير.