وقائع من سيرة الارتباط الحبّي بالنبي صلى الله عليه وآله

منصة 2023/10/01
...

 جواد علي كسار

هكذا كان منذ أول أوانه، رجلا شاهقاً عليّاً، ومضت عظمته مع أول ولادته، وشرُقت به الحياة، وأضاءت به مقادير الإنسان. ما عاش في بواكير سنيّه الأولى طفولات غيره، بل كان أبداً ينأى عن ملاهي الصبا. إنه ابن عبد الله، كبيراً ولد، وكبيراً عاش بين الكبار، لم تشب حياته ملاعب الأطفال.

دار من حوله التأريخ وصار محوره، وتحولت حياته إلى علم تتراكم معارفه، وتنمو منهجياته. لكن ما بقي شاخصاً يستعصي على النسيان ويعلو فوق المكان والزمان، هي مواقف الحب لشخصه الكريم، عاشتها ثلة وسار على نهجها آخرون، وقد روى لنا التاريخ شيئاً من أنبائها، وثبّت في محكماته بعض أخبارها، مما سنقف على وميض من إيماءاته.


كبيراً على لسان جده

ها هي مكة تحمل دون انتباه أخبار وليد بني هاشم، وقريش تتحدّث عن حفيد عبد المطلب وربيب العظيم أبي طالب؛ محمد بن عبد الله.

لكن كان لجدّه عبد المطلب رأي آخر، وهو يرى في حفيده شأناً عظيماً، ويقرأ في مستقبله غرّة تسود الناس، فجمع في العلاقة به العلم والبصيرة، إلى الحب. يذكر المؤرخون أنه كان يوضع لإبراهيم الثاني (عبد المطلب) فراش في ظلّ الكعبة لا يجلس عليه أحد إجلالاً له، وكان بنوه يجلسون حول الفراش حتى يخرج عبد المطلب. يذكر الرواة أنَّ النبي صلى الله عليه وآله كان يخرج وهو غلام، فيمشي حتى يجلس على الفراش، فيعظم ذلك على أعمامه ويأخذونه ليؤخروه، فيقول لهم عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: "دعوا ابني، فوالله إنَّ له شأناً عظيماً، إني أرى أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم، إني أرى غرّته غرّة تسود الناس".

لم يكتفِ الجدّ العظيم بهذه الكلمات الملغّزة الكتومة، في الكلام عن مستقبل حفيده، بل كان يحمله فيجلسه معه، ويمسح على ظهره ويقبله، وهو يقول: "ما رأيتُ قُبلة أطيب منه ولا أطهر قطّ". ثمّ يحمله على عنقه فيطوف به سبعاً، ولا يُدخله على اللات والعزى، ثمّ يلتفت إلى أبي طالب، ويقول: "يا أبا طالب، إنَّ لهذا الغلام لشأناً عظيماً، فاحفظه واستمسك به، وكن له كالأم لا يوصل إليه بشيء يكرهه".

هكذا مضى محمد مع جدّه كبيراً عظيماً مكرّماً إلى أن وافته المنية وهو على صدره في غمرات الموت، فلم يطمئن ويسلم الروح، حتى قبل أبو طالب الوصاية في الحفاظ عليه، فمضى عبد المطلب ومحمد ابن ثماني سنين.


قسم أبي طالب

لقد أشرقت الأرض بنور ربها، وتواصلت الأرض بالسماء مجدّداً بعد لبث وانقطاع، لكنَّ رجالات مكة صاروا أكثر طغياناً وكفراً في مواجهة رسول الله ومبعثه، وما كان له من متّسع للدعوة إلى ربّه، سوى ذلك الملاذ الآمن؛ عمه أبي طالب وهو يمدّ له غطاء الأمن والحماية، ليدعو إلى كلمات ربّه، وإلى القسط والعدل بين الناس.

دور أبي طالب واضح جلي يعلو على النفوس المكظومة بالشحناء والبغضاء، ولكلّ موقف منه قصة، تفيض بالغيرة والمحبّة. ما يستوقفني منها، كلمات أبي طالب في أول مرحلة الحصر داخل الشعب. فقد اجتمعت قريش في "دار الندوة"، وكتبوا بينهم صحيفة مقاطعة بني هاشم، مقاطعة جامعة، بحيث لا يكلمونهم ولا يواكلونهم، ولا يبايعونهم، ولا يزوّجونهم ولا يتزوّجون إليهم، ولا يحضرون معهم، واتفقوا على أنهم يد واحدة على محمد حتى يقتلوه غيلةً أو صراحة.

اختار النبي وبنو هاشم شعب أبي طالب، وكانوا أربعين رجلاً وعدداً من النساء. فلما دخلوا الشعب اجتمع بهم أبو طالب، فحلف بالكعبة والحرم والركن والمقام، قائلاً لهم: "لئن شاكت محمداً شوكة لأتين عليكم بني هاشم". ثمّ حصّن الشعب، وكان يحرسه بالليل والنهار، فإذا جاء الليل ورسول الله مضطجع، يأتي إليه بالسيف ثمّ يقيمه ويضجعه في موضع آخر، ولا يزال يقطع الليل كله هكذا. وفي النهار يوكل ولده وولد أخيه بالنبي يحرسونه.


أنت أم محمد؟

هذا الصحابي زيد بن الدثنة الأنصاري قد شهد مع النبي بدر وأُحد، وقتل أحد كبار قادة الشرك القرشي أمية بن خلف يوم بدر. أُسر زيد مع نفرٍ آخر في واقعة يوم "الرجيع" غدراً، وبيع في مكة، ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه. أُخرج من الحرم إلى التنعيم ليقتلوه في الحلّ، فاجتمع لرؤية مشهد قتله رهط من قريش من بينهم أبو سفيان بن حرب. قبل أن يُقتل أقبل إليه أبو سفيان بكبرياء زائف أمام رجل مكبّل، وبداخل مهزوز أجوف خائر، وسأله وهو مقبل على الموت: "أنشدك الله يا زيد، أتحبّ أنَّ محمداً عندنا الآن مكانك لنضرب عنقه، وأنك في أهلك"؟، ردّ زيد من فوره غير آبه بالموت المرفرف فوق رأسه: "واللهِ ما أحبّ أنَّ محمداً الآن في مكاني الذي أنا فيه، تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي".

ابتلع أبو سفيان كبرياءه الأجوف، وردّ كمن يواسي نفسه ويداري هزيمته، وهو يخاطب الملأ من قريش، بقوله: "ما رأيتُ من الناس أحداً يحبّ أحداً كحبّ أصحاب محمد محمداً"، ثمّ قُتل زيد.


وموقف للنساء

في يوم أُحد انكسر جيش المسلمين بعد أن خالف الرماة أوامر رسول الله، والتفّ المشركون حولهم، ففرّ من فرّ وهُم الكثير، وصمدت إلى الأرض ثلة قليلة فيها عدّة من النساء إحداهن السمراء بنت قيس، وقد أُصيب ابناها، فلما نُعيا لها، قالت: "ما فعل الرسول؟"، قالوا: "خيراً، هو بحمد الله على ما تحبين"، قالت: "أرونيه أنظر إليه"، فأشاروا لها إليه، فقالت: "كلّ مصيبة بعدك يا رسول الله جلل".

ومع نسيبة بنت كعب وهي تندفع إلى الصف الأوّل تدافع عن النبي، رأينا رسول الله يقول: "ومن يطيق ما تطيقين يا أمّ عمارة"، ثمّ يلتفت إلى أصحابه، قائلاً: "ما التفتُ يميناً وشمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني".

ومن رواية أخرى ربما تكون مشتركة مع الأولى، أنَّ امرأة من بني النجار قُتل أبوها وزوجها وأخوها مع رسول الله، فدنت من النبي والمسلمون قيام على رأسه، فقالت لرجلٍ: "أحيّ رسول الله؟"، قال: "نعم"، قالت: "أستطيع أنظر إليه؟"، قال: "نعم"، فأوسعوا لها فدنت منه، وقالت: "كلّ مصيبة جلل بعدك"، ثمّ انصرفت.

ليس هذا وحده، فقد بلغ نساء المدينة خبر انكسار المسلمين في أُحد، وأن الخطر بات يهدّد حياة النبي نفسه، فما كان منهن إلا أن أظهرن الجزع عليه بموقف جماعي حاشد، يقول المؤرخون في وصفه: ونساء الأنصار قد خدشن الوجوه، ونشرن الشعور، وجزن النواصي، وخرقن الجيوب، على النبي. وقد فعلن ذلك على أبواب بيوتهن، وبقين هكذا إلى أن عاد النبي إلى المدينة، فلما رأينه قال لهنّ خيراً لهذا الموقف الشعوري الذي يفيض حُباً ووفاءً، وتحدّث إليهن، ثمّ أمرهن بالدخول إلى منازلهن.


الفتى اليهودي

مذهل هذا الخبر من سيرة أبي القاسم صلى الله عليه وآله، ولولا أنني قرأته مرّات في واحدٍ من عيون المصادر، لما جازفتُ بنقله. القصة باختصار كما يرويها الإمام محمد الباقر حفيد النبي؛ أنَّ علاقة توطّدت بين النبي وفتى من اليهود، وبحسب تعبيره "عليه السلام": "كان غلام من اليهود يأتي النبي كثيراً حتى استحبّه، وربما أرسله في حاجة، وربما كتب له كتاباً إلى قوم". لكن ما حصل أنَّ هذا الفتى انقطع عن النبي أياماً فافتقده، وعندما سأل عنه، قال له قائل: "تركته في آخر يوم من أيام الدنيا". بمعنى أنه يحتضر.

فما كان من النبي صلى الله عليه وآله إلا أن نهض متجهاً إلى بيت الفتى اليهودي في جمع من أصحابه، حتى إذا ما دخل عليه وجده في غمرات الموت يجود بنفسه، فناداه رسول الله باسمه، ففتح عينيه ببركة النبي، وقال: "لبيك يا أبا القاسم"، فقال له: "اشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله"، فنظر الغلام إلى أبيه فلم يقل له شيئاً، ثمّ ناداه رسول الله الثانية وقال له مثل قوله الأوّل، فالتفت الفتى إلى أبيه فلم يقل له شيئاً، ثمّ ناداه رسول الله الثالثة، فالتفت الغلام إلى أبيه كمن يستأذنه وليعرف رأيه، فقال له أبوه تاركاً الاختيار له: "إن شئت فقل وإن شئت فلا". فقال الغلام مخاطباً النبي: "أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأنكَ محمداً رسول الله"، ومات من فوره. ومن بعد ذاك أمر النبي أصحابه بتغسيل الفتى وتكفينه، ثمّ صلى عليه بنفسه، ثمّ خرج عنه وهو يقول: "الحمد لله الذي أنجى بي اليوم نسمة من النار".


عطش أبي ذر

أقلّ ما نحفظ من مديح رسول الله للصحابي أبي ذر الغفاري قوله المشهور في الثناء عليه: "ما أقلّت الغبراء، ولا أظلّت الخضراء أصدق لهجةً من أبي ذر".

في السنة التاسعة من الهجرة أمر النبي بالتهيؤ لملاقاة الروم، وحدّد اتجاه الحركة إلى منطقة تبوك. كانت أيام عسرة وقيظ، والشقة بعيدة والعدو لا يشبه من سواه في الجزيرة، فهم الروم. لذا تخلف من تخلف عن رسول الله، وتقاعس غير قليل، وهم يتعللون بشتى المعاذير، بيدَ أنَّ العجيب أنَّ من خرج لم يجدوا لأبي ذر خبراً، فهل من المعقول أن يكون مع المتخلفين؟!.

في كلّ حال، أثار تخلّف أبي ذر همساً بين البعض، لاسيّما أولئك الذين سمعوا أكثر من مرّة، مدح رسول الله له، فكيف يمدح صلى الله عليه وآله شخصاً يتخلّف عن الغزو إلى جواره؟. جلس رسول الله في محطة استراحة في أحد المنازل، وهو يتطلّع إلى الطريق يرمقه. أثار سلوك النبي الكريم استغراب البعض، حتى طلع أبو ذر وقد كان سبب تخلفه أنَّ بعيره لم يطاوعه السير، فتركه وجاء راجلاً يقطع رمضاء الصحراء الحارقة، وهو يحمل أشياءه ومن بينها "أدواة" الماء معلقة بعصا على كتفه. عندما وصل إلى مكان النبي ومن معه، بادر رسول الله بالقول: "اسقوه فإنه عطشان"، فقال جمع من الصحابة: "يا رسول الله هذه (أدواة) معلقة معه بعصا مملوءة ماء"؛ فكرّر صلى الله عليه وآله قوله: "اسقوه فإنه عطشان"، فنهض أبو قتادة وملأ قدحه ماء واقترب نحو أبي ذر، فبرك أبو ذر على ركبتيه، ثمّ شرب حتى أتى على الماء كاملاً.

أثار سلوك أبي ذر دهشة الحضور، إذ هو لم يزل يحمل أدواته مملوءة ماء، وهو على هذه الحال من العطش!. التفت إليه أبو قتادة متسائلاً: "رحمك الله، أبلغَ منك العطش ما أرى، وهذه (أدواة) معك مملوءة ماء؟"، أجاب أبو ذر: "إني مررتُ على نضحةٍ من السماء فأودعتها أدواتي، وقلتُ: أسقيها رسول الله". وفي مصدرٍ آخر: أنَّ الماء كان بارداً، فأبى أبو ذر أن يشرب منه قطرة، وادّخره ليشرب منه رسول الله صلى الله عليه وآله.


قصة أبي خيثمة

برزت ظاهرة التخلف عن الزحف والقتال كبيرة في غزوة تبوك، لأسباب عديدة منها ما يرتبط بالصيف اللاهب، وبنشاط المنافقين وتثبيطهم، بيدَ أنَّ المهمّ هو الرعب من العدو متمثلاً بالروم أو "بني الأصفر" كما يسميهم العرب، إذ يكفي رؤية الخوار والرعب الذي ملأ النفوس، كلام رجل من بني سلمة، اسمه الجد بن قيس، إذ قال لولده عبد الله بعد أن اعتذر للنبي عن الخروج؛ قال: "مالي وللخروج إلى بني الأصفر، والله ما آمنهم وأنا في منزلي هذا، وإني عالم بالدوائر". يقصد أنه كان واثقاً من أنَّ الهزيمة ستحلّ في جانب المسلمين.

ممن تثاقل ولم يُلبِّ دعوة رسول الله إلى الخروج، جماعة منهم أبو خيثمة من بني سالم. فبعد أن مضى رسول الله اتجاه تبوك بأيام، دخل أبو خيثمة إلى دار له واسعة، وكانت عنده زوجتان، فوجد كلّ واحدة منهما قد رشّت عريشها لتلطيف الجو وتبريده، وهيّأت له الطعام والماء، فوقف على باب العريشين ونظر إلى زوجتيه وإلى ما صنعتا له، وقال بمحبّة غامرة: "رسول الله في الضحّ والريح والحرّ، وأبو خيثمة في ظلّ بارد وطعام مُهيأ، وامرأة حسناء مقيم في ماله؛ ما هذا بالنصف!".  

بلحظةِ مقارنةٍ واحدة عاد إلى نفسه تائباً أواباً رشيداً، واستيقظ بداخله ذلك المخزون من الودّ والمحبّة للرسول الكريم، فقال: "والله، لا أدخل عريش (سُباط مظلل بالخضرة ومبرّد بالماء) واحدة منكما حتى ألحق برسول الله، فهيّئا لي زاداً"، ففعلتا. ولما أتمّ تجهيزه، قدّم ناضحه وحمل عليه زاده، وفي الطريق أدرك عمير بن وهب الجمحي يطلب رسول الله أيضاً، فترافقا ولحقا بالنبي في تبوك.

هذه مواقف وفاء وحبّ انطلقت من نفوس رجال ونساء توهّجت بصدق رسول الله صلى الله عليه وآله، ومسها شيءٌ من وميض نوره فانقلبت رأساً على عقب، والسيرة عامرة بكثير منها.

ومع أنَّ للسيرة النبوية غاياتها العقدية، وأغراضها في بناء بصيرة المسلم، إلا أنَّ ما يتميّز من بينها هو وقائع الحبّ تلك، وهي تلبي أشواق النفس وتطلعات الروح للارتباط بالإنسان الكامل، وسنام الوجود وذروته صلى الله عليه وآله.