قالوا عني: خطية، اختلَّ عقله، بل وصفني بعضُهم أنني أصبت بالشيزوفرينيا، وأنَّ بيني وبين الجنون خطوة الهاوية. والحق أقول، إنَّني عندما شعرت أنَّ الجميع على خطأ في ما يقولون ويفعلون وأنَّني وحدي على صواب، أدركت عندها أنني أصبحتُ غريباً عنهم، فلملمتُ نفسي قبل أنْ تنفصمَ وذهبتَ الى طبيبٍ نفساني.. فقال:
ما من مجتمعٍ خالٍ من الأمراض النفسيَّة والعقليَّة، بل ما من إنسانٍ نظيف منها تماماً، والفرق بين المصابين بها والآخرين يكون في نوع الحالة ودرجة شدتها.
ولما سألته عن أسباب إصابتي، تبيَّن أنَّه ليس لي يدٌ فيها، فقد يكون السبب وراثياً جينياً جاءني من جدّ أبي أو خال أمي، أو ــ وانتبهوا الى هذا ــ ناتجة من تفاعلات حدثت بين أفراد أسرة يعانون من اضطرابات نفسيَّة وسوء علاقات وانعدام استقرار، فوقع الاختيار على طفلٍ فيها يكون كبش فداء، يلقون باللوم عليه ويعدّونه دائماً على خطأ. ولأنه ليس بإمكان هذا الطفل أنْ يكون بمستوى مَطالب الوالدين وتوقعاتهما لأنها متناقضة (الأب يطلب شيئاً والأم تطلب نقيضه) فإنَّه يتقهقر الى عالمٍ خيالي.
ولأنني مررتُ بهذا الموقف، فإنَّني أسألكم: أكنت على خطأ حين وجدت أنَّه من المستحيل عليّ أنْ أتكيفَ الى عالم أسرتي الذي لا يطاق، وأهرب منه الى عالمٍ خيالي؟. ألم يكن هروبي هذا احتجاجاً منطقياً من جانبي؟
وأخبرني الطبيب أنَّ البشر يختلفون في قدرة تحملهم للمشكلات والأزمات، فمنهم من يجد الذي يسنده في مواجهتها فيقوى عليها، ومنهم من لا يجد أحداً فيضعف أمامها ويقف وحيداً في أقسى معاركه، وعندها ستختل وظائفه العقليَّة. فهذا الدماغ (الكرة المعجزة) تربط مليارات خلاياه موجات كهربائيَّة وتفاعلات كيميائيَّة معقدة، وحين يختلُّ نظامها يصابُ الإنسانُ بحالات من الذهان. وما أنْ تظهر بوادره عليه حتى يبدأ الناس يتهامسون بأنه أصبح مجنوناً، ويغدو في نظرهم إنساناً يستثير الشفقة والسخرية والفزع.
وفهمت من الطبيب سرّاً أفزعني لكنَّني تقبلته لأنَّه الحقيقة، قال: إنَّ حال من يصاب بـ»الشيزوفرينيا» يكون أشبه بحال من يتدحرج من قمة جبل، وإنَّ مهمة الطبيب المعالج هي التخفيف من سرعة تدحرج المريض، وإنَّ شفاءه مرهونٌ بموقف أسرته منه، وموقفكم أنتم أيضاً. قلت له: «لكنَّ أهلي، وأنتم أيضاً تنظرون لمن يتعرض حتى للإصابة بأخف الأمراض العقليَّة، أنَّ حاله ميؤوسٌ منها. وعاتبت الطبيب، قلت له: لنفترض، على أسوأ الأمور، أنَّ حالي شبيهة بحال من يصاب بأخطر أمراض السرطان الذي لا شفاء منه، فإنَّ هذا رغم توقعه للموت يبقى متشبثاً بالحياة، تساعده أسرته وتغذّ الأمل فيه. أوليسَ من حقي أنا أنْ أتشبث بالحياة أيضاً؟. أليس من واجبكم أنتم أنْ تساعدوني على التعلق بالحياة؟
والأقسى، أيها العقلاء، أنَّكم تودعوننا بمشافي الأمراض العقليَّة وتهملوننا فيها. وحتى لو شُفينا فإنَّكم لا تعيدوننا إليكم لأنكم تعدوننا «وصمة عار» وتنسون أنكم كنتم أنتم السبب، أو في الأقل شركاءً في
صنعها.