هل يساعد الهواء النقي على تقليل الانتحار؟
بقلم: ريتشارد فيشر
ترجمة: كريمة عبد النبي
في تقرير سابق لها، صنفت منظمة الصحة العالمية حوادث الانتحار على أنها رابع أهم سبب للوفاة من تتراوح أعمارهم بين (15 و29 عاما) على الصعيد العالمي. وأشار التقرير الذي نشرته المنظمة عام 2019 «في كل عام يضع أكثر من 700 ألف شخص حدا لحياتهم حيث تخلق كل حالة انتحار مأساة تؤثر في الأسر والمجتمعات والبلدان وتترتب عليها آثار طويلة الأمد على ذوي الشخص المنتحر».
وبحسب بيانات منظمة الصحة العالمية فأن الانتحار لا يحدث في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل فحسب، وإنما هو ظاهرة تحدث في جميع بلدان العالم.
وفي هذا التقرير الذي نشره موقع (بي بي سي) البريطاني يبدأ الكاتب في سؤال مفاده «كيف يتم منع الأشخاص من وضع نهاية لحياتهم؟ والحقيقة أنه لا توجد إجابات سهلة عن هذا السؤال، غير إن الشيء الواضح تماما هو أن عملية الانتحار تعد مشكلة صحية عامة رئيسية.
ويشير التقرير إلى أن أكثر من 700 ألف شخص يضعون حدا لحياتهم من خلال عمليات الانتحار في كل عام، بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية». وتحيي المنظمة الدولية في العاشر من أيلول من كل عام للتذكير بهذه المأساة المستمرة وتحتفل بهذا اليوم بوصفه يوما عالميا لمنع الانتحار، وتقوم منظمة الصحة العالمية عبر تلك الفعالية بتسليط الضوء على معدل حوادث الانتحار والأسباب المؤدية إليها.
في الولايات المتحدة الأميركية، تثير نسبة حوادث الانتحار قلق الشعب الأميركي، إذ زادت بنسبة 40 بالمئة خلال فترة العقدين الأخيرين. فقد وصل عدد الأميركيين الذين أقدموا على الانتحار خلال العام الماضي فقط نحو خمسين ألف شخص؛ أي بمعدل حادثة واحدة لكل (11) دقيقة، وذلك على الرغم من أن الولايات المتحدة الأميركية توصف بأنها واحدة من أعلى الدول في معدلات الغنى والتقدم. وبمقارنة حوادث الانتحار في بريطانيا مع الولايات المتحدة الأميركية، فان معدل تلك الحوادث في بريطانيا يبدو أقل بنسبة 25 بالمئة عنه في أميركا.
تدخل صحيّ
ويقول التقرير إنه على الرغم من أن منع حوادث الانتحار يوصف بأنه مشكلة معقدة، إلا أن البحوث التي أجريت خلال السنوات الأخيرة أشارت إلى أنه بإمكان المسؤولين في المجالين السياسي والصحي التدخل في هذه القضية من خلال تنشيط العمل في مجال الصحة العقلية أو تقليل شعور الأفراد بالوحدة.
وعلى سبيل المثال، في عام 1918 أشار عدد من الباحثين من خلال تقرير نشرته احدى المجلات العلمية عن الطريقة التي كيف تمكنت عبرها الدنمارك من تقليل معدل حوادث الانتحار من خلال تقييد الوصول إلى أكثر الطرق خطورة والتي تؤدي إلى حالة الانتحار، بإضافة إلى إنشاء عيادات خاصة لمنع الانتحار، وهي عيادات تعمل على معالجة الأشخاص الذين يفكرون بالانتحار.
وحسب تقرير الوكالة البريطانية ظهرت في الآونة الأخيرة أبحاث علمية جديدة، على الرغم من أنها تبدو للوهلة الأولى لا علاقة لها بعمليات الانتحار، غير إنها تشير إلى علاقة تحسين نوعية الهواء بتقليل حوادث الانتحار. فخلال السنوات الأخيرة أظهرت عدد من الدراسات المختلفة وجود علاقة بين ارتفاع نسبة التلوث في الهواء وبين مخاطر الوصول إلى حالة الانتحار.
ومن الثوابت العلمية أن تلوث الهواء يزيد من نسبة الأزمات القلبية والأمراض الصدرية، وأنه في أقل الحالات سوءاً يشكل أحد مصادر الخمول وتراجع التركيز الذهني وقلة الإنتاج في العمل. غير أن الأبحاث الطبية الحديثة أثبتت أن تلوث الهواء يتسبب في وقوع مخاطر أكثر من ذلك، وأنه أحد الأسباب التي تؤدي إلى تعكر المزاج الشخصي والإقدام على الانتحار.
إلى ماذا تشير الدراسات المذكورة؟
في العام 2021، قام «سولكي هيو» إلى جانب عدد من زملائه في جامعة ييل الأميركية، وهي ثالث أقدم معهد للتعليم العالي في الولايات المتحدة الأميركية، بمراجعة ثمانية عشر دراسة تناولت العلاقة بين تلوث الهواء والانتحار، حيث وجدت المجموعة علاقة كبيرة بين عمليات الانتحار والتلوث الناتج من المواد المنبعثة من حرائق الغابات والأتربة الناتجة عن عمليات البناء والغازات والنايتروجين المنبعثين من المعامل الصناعية، إضافة إلى العوادم الناتجة عن حركة المركبات.
وتتناغم نتائج هذه الدراسة مع بحث أجرته الباحثة «أيزوبيل بريثويت» من الكلية الجامعة في لندن. وبعد تحليل نتائج البيانات التي توصلت اليها عدد من الدراسات، وجدت بريثويت وعدد من زملائها أن التعرض للهواء الملوث لفترة طويلة يزيد من احتمالات الاكتئاب الذي يؤدي بالتالي إلى عمليات الانتحار.
آلية بايولوجية محتملة
على الرغم من أن نتائج الدراسات ليست مؤكدة، لكن الباحثين لديهم شكوك بأن دخول الهواء الملوث إلى الرئتين قد يعيق تدفق الأوكسجين إلى الدم ومن ثم إلى الدماغ. وأشارت عدد من الدراسات التي لا علاقة لها بعمليات الانتحار إلى أن من بين التأثيرات الناتجة عن العلاقة (بين الهواء الملوث وتدفق الأوكسجين إلى الدم) هي ضعف الإدراك لدى الأشخاص الذين يتعرضون لمثل هذه الحالة.
وفيما يتعلق بمخاطر الانتحار، يعتقد الباحثون أن تلوث الهواء قد يؤدي إلى وقوع التهابات في الدماغ، وهو ما يعبر عنه بنقص السيروتونين (هرمون السعادة) في الجسم حيث تؤدي هذه العوامل بدورها إلى حدوث السلوكيات الاكتئابية للفرد. وطبقا لهذه النتائج، فان هناك احتمالية تأثير تلوث الهواء على تفكير الأشخاص بالانتحار من دون أن يدرك الأشخاص أنفسهم ذلك التأثير. فما هي الاحتياطات التي يجب معرفتها لتقليل هذه الحالات؟
قامت الدراسات التي تمت مراجعتها من قبل فريق جامعة ييل في الولايات المتحدة وفريق الكلية الجامعة في لندن بتسليط الضوء على العلاقة، من خلال مقارنة الاحصائيات، بين ظهور التلوث وحالات الانتحار من دون التركيز بصورة كبيرة على الآليات والعوامل التي تقف وراء تأثير التلوث على الدماغ.
مع كل دراسة تبحث في وجود علاقة بين الأشياء قد يكون من الأفضل للباحثين القيام بدراسة التأثيرات البيئية التي تؤثر في الأشياء موضوع الدراسة. فعلى سبيل المثال، من خلال تحليل البيانات التي أشارت لها الدراسة التي أجراها فريق «هيو» من جامعة ييل، فان هذا الفريق قام بمراجعة عدد من الدراسات التي توصلت إلى وجود علاقة بين حوادث الانتحار ودرجات الحرارة العالية، حيث أشارت تلك الدراسات إلى ارتفاع معدلات حوادث الانتحار في الأيام التي تشهد درجات حرارة عالية.
وقد توصلت مثل هذه الدراسات إلى أن زيادة سبع درجات في الحرارة يؤدي إلى ارتفاع معدلات الانتحار بنسبة تسعة بالمئة. وتقول المؤلفة المشاركة في هذه الدراسة ميشيل بيل إن «أي زيادة كبيرة في درجات الحرارة من المؤكد أن تكون لها مخاطر كبيرة خاصة في حالات الانتحار».
وبينما يشير عدد من الدراسات التي تتناول التلوث البيئي إلى احتمالية تأثير درجات الحرارة العالية على معدلات الانتحار، فعلى الأغلب تبرز عدد من التحديات عند البحث في فك الترابط بين هاتين الظاهرتين (التلوث وارتفاع درجات الحرارة) لأن العلاقة بينهما كبيرة. إذ أن درجات الحرارة العالية قد تؤدي إلى ارتفاع تلوث الهواء، وهذا ما أشارت له الدراسة التي أجراها هيو وفريقه.
دور الهواء النظيف
وبحسب تلك الدراسة فان الأشخاص المتعرضين للاكتئاب يستنشقون الهواء الملوث في درجات الحرارة العالية والسبب في ذلك هو فتحهم الشبابيك بسبب ارتفاع درجات الحرارة.
ومن غير المؤكد علميا وجود اختلاف بتأثير الهواء الملوث في التفكير بالانتحار بين الرجال والنساء (لكن هناك تقارير تشير إلى أن نسبة الانتحار بين الرجال في الولايات المتحدة تصل إلى 80 بالمئة من مجموع عمليات الانتحار).
ومن البديهي أن يكون السؤال هو: أليس التلوث البيئي بالفعل هو من الأخبار السيئة بالنسبة للصحة العامة؟ فلقد توصلت الأبحاث العلمية إلى حقيقة مفادها ان استنشاق الهواء الملوث يؤثر في الأشخاص بطرق أخرى متعددة.
في السابع من الشهر الحالي، احتفلت منظمة الأمم المتحدة باليوم العالمي للهواء النظيف تحت شعار «سماء زرقاء صافية» حيث سلط المنظمون لهذه الفعالية الضوء على مخاطر استنشاق الهواء الملوث على الرئتين والمسؤول عن ثلث الوفيات على مستوى العالم، حيث يؤدي ذلك إلى الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي المزمنة وسرطان الرئة.
كيف تساعد هذه المعلومات على منع الانتحار؟
أظهرت التجارب السابقة التي أجريت في الدنمارك ومناطق أخرى أن تقليل معدلات الانتحار بصورة ناجحة يتطلب تدخلات متعددة على الصعيدين المحلي والدولي.
يعمل تلوث الهواء على زيادة حالات الانتحار بنسبة قليلة، لكن إمكانية القضاء على تلك النسبة لن يحل المشكلة. غير إنه، وبحسب هيو وفريقه، إذا تم تأكيد العلاقة بين تلوث الهواء وعمليات الانتحار، فان هناك حاجة ملحة لإجراء المزيد من البحوث التي من شأنها أن تؤدي إلى اطلاق التحذيرات العامة والقيام بحملات توعية في حالة ارتفاع نسبة التلوث في الهواء.
ويحذر الفريق المذكور من أن تغير المناخ، التصحر، الجفاف وحرائق الغابات تعمل جميعها على زيادة نسبة التلوث في الهواء. إن كل هذه المشكلات، إضافة إلى مخاطر قيام بعض الأشخاص بوضع حد لحياتهم، فان ذلك يتطلب القيام بمزيد من الاجراءات الاضافية العاجلة.
وأخيرا، فان منظمة الصحة العالمية ومن خلال عمليات التوعية التي تقوم بها تدعو إلى «احياء الأمل عن طريق العمل» حيث يشكل هذا الموضوع دعوة قوية للعمل وتذكيرا بأن هناك بديلا للانتحار وأن العمل يساعد على بث الأمل وتعزيز منع الوصول إلى حالة الانتحار.
عن موقع (بي بي سي) البريطاني