واشنطن لم تتعلّم الدرس من حروبها الخاسرة
باربرا كويبل*
ترجمة: بهاء سلمان
مع نهاية العام 1967، كانت حرب فيتنام عبارة عن مأزق، على أقل تقدير بالنسبة لأولئك الذين كان بمقدورهم رؤية الأمور بشكل مباشر. وللبعض منهم، مثل الجنرال «ويليام ويستمورلاند»، قائد القوات الأميركية آنذاك، لم يكن الأمر كذلك. وهكذا كان، فخلال تشرين الثاني من العام نفسه، زعم الجنرال ويستمورلاند بأن «مرحلة جديدة ستبدأ» في فيتنام.
الأكثر من هذا، كان هذا الرجل «يستطيع رؤية الضوء في نهاية النفق.» وعلى الرغم من حساباته الوردية، شنّت قوات فيتنام الشمالية وقوات الفيت كونغ «هجوم تيت» الشهير بعد شهرين من ذلك، مستهدفة أكثر من مئة مدينة في فيتنام الجنوبية، وصولا إلى السفارة الأميركية في سايغون؛ العاصمة الجنوبية.
ومن أجل تعزيز موقف النصف مليون جندي أميركي الموجودين هناك، طلب الجنرال ويستمورلاند من الرئيس ليندون جونسون مئتي ألف جندي إضافي، لكن الرئيس رفض، واستدعى قائده إلى واشنطن. ثم استمرت الحرب على مدى السنوات السبع التالية، قتلت نحو اربعة ملايين مدني وعسكري فيتنامي تقريبا، فضلا عن 58 ألف جندي أميركي.
والسؤال هنا هو: هل يمكن للحروب الأميركية الخاسرة في فيتنام، ولاحقا في العراق وافغانستان تقديم دروس لاوكرانيا؟ يبدو أن الجواب هو النفي. وعلى الرغم من أن الهجوم الأوكراني المضاد للروس، والذي تم التهليل له كثيرا، قد بدأ منذ شهر حزيران الماضي، لكن يبدو أنه قد توقف، مع إجراء صحيفة نيويورك تايمز الأميركية للقاءات روتينية مع مسؤولين وخبراء دفاع من اوكرانيا والولايات المتحدة وأوروبا، كان ملؤهم التفاؤل بإحراز تقدم لم يتحقق.
تمجيدٌ إعلامي
في عدد يوم 21 آب الماضي، اقتبست الصحيفة الأميركية قصة صفحتها الأولى المعنونة «القوات الاوكرانية والهجوم الرائع في الخطوط الأمامية»، من قائد كتيبة أوكراني قوله: «مع توفر البراعة والمعدّات الغربية، تخترق القوات المسلحة الاوكرانية الخطوط الدفاعية الروسية.. والنجاح هو مسألة وقت فقط.»
وعلى نحو مشابه، صدرت الصحيفة يوم 18 آب، بتفاصيل جديدة، إذ تلقت هيئة التحرير فيها معلومات؛ من مصادر معهد دراسات الحرب، وهي مجموعة لتقديم النصح والأفكار تتّخذ من واشنطن مقرا لها، بأن الهجوم المضاد قد حقق «مكاسب بارزة من الناحية التكتيكية». وتتلقى المجموعة تمويلها الرئيس من وكلاء يعملون مع وزارة الدفاع الأميركية.
وبسحب معلوماته من قواعد اللعبة الجنرال السابق ويستمورلاند، قال «فيليب بريدلوف»، وهو جنرال قوة جوية أميركية متقاعد، يوم 14 آب الماضي: «إننا لم نعطي اوكرانيا الأدوات التي تحتاجها،» على الرغم من أن الولايات المتحدة لغاية الشهر الحالي قد أرسلت ما قيمته تقريبا 77 مليار دولار على شكل مساعدات إنسانية ومالية، وغالبا عسكرية. ووصف بريدلوف الجيش الأوكراني بكونه «أحد أفضل الجيوش المزوّدة بالمعدات والجاهزة للقتال في أوروبا.»
في عدد يوم 3 آب، اقتبست الصحيفة الاميركية «تحليلات عسكرية، زعمت بأن «الاوكرانيين قد شرعوا بتحطيم القوات والمدفعية الروسية،» لكنها لم تذكر تفاصيل يستفاد منها أو معلومات عن مواضع مدمرة، لكن الكلمات كانت متشابهة على نحو مخيف. وحتى وقت قريب، اقتبست الصحيفة يوم 11 أيلول قول الجنرال «مارك ميلي»، رئيس هيئة الأركان المشتركة، الذي أقر بأن الهجوم المضاد «يسير أبطا مما هو متوقع»، بيد أنه أضاف بأن «الاوكرانيين يكافحون بجهد حثيث من أجل تحقيق التقدّم.»
المصالح تفرض نفسها
ربما لا يمثل دعم صحيفة نيويورك تايمز للحرب أمرا يثير الدهشة، فمجلس المدراء لديها يضم؛ على أقل تقدير عضوين لديهما روابط وثيقة بمصلحة الصناعات الدفاعية. على سبيل المثال، يعد «روبرت دينهام»، وهو عضو المجلس من 2008 لغاية 2021، يعد شريكا لثلاثة شركات قانونية، تمثل مصالح شركات بوينغ ونورثروب غرومان ولوكهيد مارتن ورايثون. أما «بيث بروك» التي انضمّت إلى المجلس سنة 2021، فهي تشغل منصب نائب رئيس السياسات العامة لدى مؤسسة ايرنست ويونغ، التي تدرج لوكهيد مارتن كواحدة من «زبائنها الكبيرة».
ويقتبس تقرير الصحيفة ليوم 13 آب حول اوكرانيا كلاما للباحث «بين باري»، زميل المعهد الدولي للدراسات الستراتيجية، حيث يقول أن «معركة أوكرانيا العميقة‘ ضد أهداف بعيدة تماما عن خطوط العدو قد أظهرت علامات نجاح في تعطيل العمليات العسكرية الروسية، من التي ستهيئ القوات الاوكرانية لنجاح خارق، أو تضعف من القوة القتالية للروس.»
يتم تمويل هذا المعهد من قبل لوكهيد مارتن ووزارة الدفاع الاميركية ووزارة الدفاع البريطانية، علاوة على جهات أخرى، وصنّف من قبل إحدى المجموعات البحثية بأنه يقع ضمن درجة متدنية جدا فيما يخص الشفافية. ولا تعد الصحيفة الاميركية الوحيدة في اختيارها مقابلة المتفائلين، ففي عدد 23 آب الماضي، نقلت صحيفة واشنطن بوست الأميركية كلاما لمستشار الأمن القومي «جاك سيليفان»، يقول فيه «إننا لا نقيّم الصراع على أساس كونه ورطة.»
وتتّخذ بعض وسائط الإعلام البريطانية المعروفة نظرة أكثر دقة في درجات الاختلاف. على سبيل المثال، نوّهت صحيفة فانينشيال تايمز البريطانية بأن «المسؤولين الأميركان يشعرون على نحو متزايد بالحرج حيال ستراتيجية الهجوم المضاد، مع تشاؤم حول امكانية نجاحه.»
وفي اليوم نفسه، كتبت صحيفة الايكونومست البريطانية أن «آمالا بتحقيق اختراق سريع قد تضاءلت.» كما إن الأمر وصل بصحيفة واشنطن بوست الأميركية إلى أن تنوّه في عدد يوم 17 آب إلى أن «جميع المحللين تقريبا يتفقون على تجاوز روسيا للتوقعات حينما يتعلّق الأمر بكفاءتها في الدفاع عن أرض محتلة.»
آراء واقعية
أما بعض المحللين الذين لا تنقل عنهم وسائل الإعلام الغربية المعروفة، فيرون الوضع على أنه يمثل مأساة حقيقية. فالكولونيل الأميركي المتقاعد «لورنس ويلكرسون»، وهو مساعد خاص سابق لرئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال كولن باول، كان قد أبلغ أحد المواقع بما يلي: «إنطلاقا من كوني عسكري محترف، فمن الواضح بالنسبة لي بأن هذه الحرب تمثل وصفة لهزيمة كاملة. وإن أي خبير عسكري لا يتلقى مالا من وسائل الإعلام، أو ليس من الحمقى، يعلم بأن الأمر عبارة عن صراع غير متكافئ حتى مع رمي حلف الناتو بكل ما يمكنه من ثقل ما عدا جنوده إلى المعركة لتغيير مسار الحرب، ومع ذلك، فنحن ندعم أوكرانيا حتى موت آخر جندي أوكراني... إذ إنهم حتما يقاتلون من أجل أشياء نحن جميعنا نقاتل دفاعا عنها، لكننا نقوم بخداعهم لأنهم لن يحققوا النصر. لكم أن تلاحظوا كم من البشر يخسرون، وهذا أمر لا يمكننا تعويضه.»
تستند حسابات ويلكرسون إلى «عدم توازن شديد للقوى، فهناك دولة عدد سكانها 140 مليون تواجه دولة اخرى تقلّص شعبها من أربعين مليون إلى نحو ثلاثين مليون نسمة. تمتلك روسيا القدرات الهائلة من أعداد البشر والقوة والعمق الجغرافي والصلابة المكتسبة من هذا كله. فضلا عن ان لديها أحد أكبر القواعد الصناعية النشطة التي لم يتمكّن حتى النازيون من التغلّب عليها خلال الحرب العالمية الثانية عبر أحد أفضل قوات عسكرية شهدها كوكب الأرض.. إن ما قام به بوتين كان عنيفا وقاسيا، غير أنه يقوم بردة فعل على ما قمنا به من خلال توسيع حلف الناتو ووضع الصواريخ البالستية ذات القدرات النووية على أرضي دول إنضمّت حديثا إلى الناتو.»
الأكثر من هذا، يقول ويلكرسون: «إن تهديد بوتين لبقية أوروبا هو عبارة عن كلام لا قيمة له، فنحن ولندن لعبنا تلك اللعبة انطلاقا من اعتقادنا بأن هذا الحال سيعمل على تمتين قوة الناتو. إنه أمر خطير.»
مسؤولون خاسرون
علاوة على ذلك، كان الأمين العام لحلف الناتو «جينس ستولتنبيرغ» قد أخبر لجنة الشؤون الخارجية التابعة للبرلمان الأوروبي بأن الرئيس بوتين طلب من قيادة الحلف «وعدا بعدم توسيع الناتو على نحو مطلق.. كي لا يصل خط الحلف إلى الحدود الروسية. لكننا قمنا برفض هذا الطلب، ومن ثم مضى بوتين في طريق الحرب من أجل منع هذا التوسع الجديد لحلف لناتو.»
ويشكك ويلكرسون بحكمة المسؤولين الذين تستضيفهم القنوات الاعلامية الغربية، من أمثال شبكة سي أن أن، حيث أشار إلى «ديفيد بيترايوس»، الجنرال العسكري الأميركي المتقاعد، والرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الاميركية، الذي أكد المطالبة بضرورة تزويد الاميركان لاوكرانيا بأسلحة جديدة، حيث قال ويلكرسون: «هذه المصادر لا تغيّر ذهنيتها القديمة لأنها عالقة ضمن خطابها الخاص الذي اعتادت عليه.. أنا لدي سؤال للجنرال ديفيد بيترايوس، الذي عرفته لفترة من الزمن: متى كانت المرة الأخيرة التي حققت فيها نصرا حربيا؟ لقد خسر الجنرال في العراق، كما خسر في افغانستان أيضا، وأرغم في النهاية على تقديم استقالته من وكالة الاستخبارات. بالتالي، لا يسعني أخذ نصيحة بيترايوس على محمل الجد، ولا يسعني كذلك تصديق ما يقوله غالبية كبار العسكريين المتحدّثين على شاشات التلفزيون لأنهم جزء من ماكنة الحرب العملاقة. بالمجمل، كان سلوك الناتو ضعيف المشورة على نحو لا يصدّق: لقد حظينا بفرصة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة لجعل روسيا جزءا من أوروبا بشكل حقيقي؛ إلا إننا لم نفعل ذلك.»
ماذا بعد الدعم؟
ويشعر الكولونيل المتقاعد ويلكرسون بالخشية لما يمكن أن يحصل حينما «تبدأ تخسر على نحو رديء»، ما لم تكن مستعدا للتصعيد بشكل رئيسي. والأمر لا يتعلّق فقط بالشأن النووي، ولكن أيضا بالجزء التقليدي، فإذا ما سلكت هذا الطريق ماضيا بهذا الخطر، فستبدأ بتوفير طائرات أف 16، ومن ثم ستقوم بقيادة تلك الطائرات بنفسك لتقترب من الحرب بشكل أكثر فاعلية. نعم، لا توجد قوات على الأرض لغاية الآن لكن ذلك سيحصل في النهاية، وبعدها ستكون ضمن حرب عالمية، ومن ثم سينبغي على القوى النووية تجنّب المواجهات التي تجلب الخصوم لخيار إما تراجع مذل أو حرب نووية، وهي بمثابة فناء جماعي للعالم بأسره.»
والواقع أن توقعات الكولونيل ويلكرسون تحققت جزئيا، حينما أوردت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تقريرا صدر يوم 21 آب الماضي يشير فيه إلى أن كل من هولندا والدنمارك ستمنحان أوكرانيا 61 طائرة مقاتلة من طراز اف 16، «بمجرّد تدريب الطيارين والمهندسين». وكان الرئيس الأميركي الراحل جون كنيدي قد حذّر من مثل هذه المخاطر خلال خطاب التخرّج للجامعة الاميركية في العام 1963 بقوله: «أنّ الحرب الشاملة لا معنى لها عندما تحتفظ القوى العظمى بقوات نووية كبيرة وغير معرّضة للخطر نسبيا وترفض الاستسلام من دون اللجوء إليها».
وشدد الرئيس جون كنيدي على الدبلوماسية، كما هو شأن الكولونيل ويلكرسون، الذي يقول: «أنّ هذه الخطوة ستنجح إذا كان الناس جادين في ذلك. لكنهم ليسوا كذلك، لأنهم يكسبون الكثير من الأموال من هذه الحروب، فهي أموال من تلك التي تذهب إلى خزائن السياسة الأميركية وإلى خزائن الثلة الحاكمة في موسكو.»
ويشير الكولونيل المتقاعد ويلكرسون إلى أنّه في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، «باعت شركة دوبونت وشركة فورد للسيارات الإمدادات للزعيم الألماني أدولف هتلر، حتى أن فورد أرسل تلك الإمدادات بنفسه خلال الحرب. سوف تدرك بعد ذلك إننا (الشركات الغربية) باقون في أوكرانيا لأننا نجني ثروات منها، لوكهيد مارتن ورايثيون، على وجه الخصوص.»
النتيجة السامة
هناك أيضا مسألة المخاطر الضارة عندما تنتهي الحرب. وفي مقابلة، حذّر «ماثيو هواه»، المدير المساعد لشبكة أيزنهاور الإعلامية، وهو من قدامى المحاربين في مشاة البحرية ومستشار وزارة الخارجية السابق الذي استقال بسبب تصاعد وتيرة الحرب الأفغانية في العام 2009، من أنّ «اوكرانيا ستكون منطقة خطرة لدرجة مميتة لعقود من الزمن. أولا، هناك «المنفلقات الفاشلة»، القذائف والصواريخ والقنابل والقنابل اليدوية التي يستخدمها الجانبان والتي لا تنفجر. وحتى لو كان معدل الفشل بنسبة واحد بالمئة فقط، فهذه كمية مذهلة من الذخائر غير المنفجرة، ولقد رأينا ما حدث في أماكن أخرى.»
في أواخر العام 2016، ذكرت مجلة سميثسونيان الأميركية أن «آلاف الأطنان من القنابل غير المنفلقة موجودة تحت الأرض في ألمانيا، وهي من مخلفات الحرب العالمية الثانية». وفي فيتنام، تمكنت منظمة «مشروع التجديد» غير الربحية من إزالة الآلاف من القنابل غير المنفجرة في مقاطعة كوانج تري لوحدها. وذكرت شبكة إن بي سي نيوز الأميركية مؤخرا أنه في بولندا، «اكتشف عمال البناء الذين يعملون في منطقة سكنية جديدة قنبلة ضخمة مدفونة تحت الأرض، تعود أيضا إلى حقبة الحرب العالمية الثانية».
علاوة على ذلك، فإن التلوّث الناجم عن المواد الحربية يعد واسع النطاق. ويوضح الباحث الإعلامي «هواه» أنه «عندما يتم تفجير آلاف الدبابات أو المركبات العسكرية الأخرى، يتسرّب الوقود ومواد التشحيم، وكذلك المتفجرات الموجودة في المركبة.» ويستطرد قائلا: «كما قام الجانبان بوضع ملايين الألغام الأرضية. على الرغم من أنه من المتوقع من الدول المتحاربة أن تتبع المكان الذي وضعت فيه تلك الملايين من الألغام حتى تتمكن من إزالتها عند انتهاء الحرب، إلا أنه في كثير من الأحيان لا يتم تسجيل مواقعها. والأسوأ من ذلك أن كثيرين تأثروا بالفيضانات العارمة عندما إنهار سد كاخوفكا شرقي أوكرانيا في السادس من حزيران؛ وهذا الحال من المحتمل أن يقع في أي مكان آخر.
علاوة على ذلك، يشير هواه إلى الخطورة السمّية للأسلحة المصنوعة من اليورانيوم المنضّب وغير المنضّب والمخصّب قليلا، حيث كانت قد استخدمت في العراق وأفغانستان خلال الحرب. ويتساءل: «كم هو عدد أجيال النساء الأوكرانيات اللواتي سينجبن أطفالا مشوهين؟
وكم شخص سيصاب بالسرطان؟» ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، كان لدى العراق في العام 2004 أعلى معدلات الإصابة بسرطان الدم وسرطان الغدد اللمفاوية على مستوى العالم، تليها مباشرة أفغانستان.
يقول هواه: «بغض النظر عمّن سينتصر في الحرب، فسوف يحصل على أرض مدمرة وسامة ومليئة بالقنابل والقذائف غير المنفجرة».
*باربرا كوبيل مراسلة استقصائية مستقلة تقيم في واشنطن العاصمة.
شبكة زي الاميركية للأخبار