موت زيوس ورحيل المسرحي ميثم هاشم

منصة 2023/10/11
...

 إحسان العسكري

منذ بداياته في أول ظهور له، شكل ذلك الشاب اليافع بارقة أمل في العثور على تتمة لأجيال سبقته من الذين جمعوا بين الجديَّة والكوميديَّة والتراجيديَّة والبراءة، من جهة أخرى فقدرته على تقمُّص الشخصيات وتفاعله مع الأحداث المكتوبة بلغة التمثيل جعلت منه ممثلا واعداً ما انفك يلازمُ المسرح، حتى غدت الأعمال المسرحيَّة التي تعرض في مسارح سوق الشيوخ ومنها انطلق الى العالم حديث المتابعين والمهتمين، ولكن أبت الحياة إلا أن تحرمنا حضوره الشفيف.

ميثم هاشم الفنان المسرحي والشاعر والمغني الذي علّق ذائقته بين مظفر النواب والتراث الغنائي العراقي، كان كتلة من الجمال والبراءة والبساطة والإنسانيَّة والذوق والحب. 

وفي الطرف الآخر كان مُبدعاً في الأداء المسرحي، فمنذ مشاركته الأولى في أول عرضٍ مسرحي على مستوى حضورٍ نخبوي كان في منتصف العقد الماضي بمسرحيَّة من تأليف وإخراج جميل الماهود وتمثيل نخبةٍ رائعةٍ من فناني سوق الشيوخ أمثال عواد الدلي وعمار مطشر وجواد الدلي وصلاح حسن وسط حضورٍ مميزٍ ورائعٍ لنخبة أدباء وشعراء العراق الذين كانوا يحيون فعاليات مهرجان (مصطفى جمال الدين الأول) الذي يقيمه التجمع الثقافي في سوق الشيوخ، وكان أداؤه ملفتاً وإبداعه واضحاً وحرصه على احترام اللغة واللكنة الجنوبيَّة عظيماً، ولم يكن قادماً من فراغ، فهو كما حدّثنا عنه أقرب أصدقائه الأديب الشاب أحمد عودة كان مُتيماً بشعر مظفر النواب حافظاً لكلماته متأثراً بشعره متواضعاً جداً في علاقاته رغم شهرته المحليَّة، فضلاً عن كونه كان يسعى لنيل أعلى الشهادات الأكاديميَّة في الفنون الجميلة حيث درس وتعلّم.

ميثم هاشم أخفى كونه شاعراً ليستثمر هذه الميزة في احترام اللغة العربيَّة حينما كان يؤدي الأدوار التي تكتب بالفصحى في المسرحيات التي عُرضت في العراق وعددٍ كبيرٍ من الدول العربيَّة خاصة مسرحيَّة «موت زيوس» للكاتب والمخرج الاسباني ماركو ماغوا، والتي لاقت عروضها في العراق ومصر والسودان استحساناً كبيراً حلّق فيها الفقيد من غصنه في سوق الشيوخ إلى مسارح الوطن العربي المُزهرة بالعطاء والجمال. ثم أوروبا حيث إيطاليا حين عُرضت مشاهد من موت زيوس الذي آثر إلا أنْ يأخذ ميثم معه حيث محطات الخلود.

إنَّ عمق الفنّ يكمنُ في روح الفنان المبدع وإبداع المسرح يتأتى من عشق المسرحيين له، فكان فقيدنا العاشق الملهم للمسرح فقد أداه بجدارة وإمكانيَّة قليلة النظير.. كنا نشاهده وقد تقمصته الشخصيات فذابوا ببعضهم ذوبان السكر بالماء ليشكلوا منهلاً من عذوبة وجمال، كرِه العنف فأدى أدوار السلام ببراعة، وأحب الوطن فحمله هماً فوق هم مرضه. قلت له ذات مرة ثمة برنامج لمواهب الشباب في إحدى الفضائيات وأريدك أنْ تشارك وحين قرر أنْ يشارك تفاجأ بمشاركة شباب من أصدقائه فتوقف عن الفكرة لئلا يتميز عنهم فهم لا زالوا مبتدئين وقد قطع شوطه في هذا المجال، هو هكذا فيضٌ من إنسانيَّة ومحبة ونقاء وتواضع.

لا أريد القول إنَّ الإعلام خذله كما خذل غيره، لكنَّه لم ينصفه فللفضائيات شغلها الشاغل بمشاهير «السوشيال ميديا» ولا تمتلك الوقت والمساحة لتسليط الأضواء على شاعرٍ هنا أو فنانٍ مبدعٍ هناك كميثم هاشم، ولكنه ورغم كل هذا التجاهل الرسمي والنقابي أثبت بحق أنَّه إنسانٌ جميلٌ وفنانٌ أجمل عبر مجالات المحليَّة بسرعة وجدارة ومثل بلده التمثيل الذي يليق به وحمل أحلامه وهمومه وتراثه معه وقدم له أكثر بكثيرٍ مما يقدمه لنفسه، حتى أنَّ المخرج الإسباني ماركو ماغوا، قال عنه: «الحياة رحلة صعبة، فإنْ كنت فنانًا يصبح كل شيء أكثر تعقيدًا. نحن نحلم في عزلة، ونقاتل كل يوم بمفردنا محاولين إقناع أنفسنا بأنَّ الثقافة والفن يمكن أنْ يساعداننا على فهم العالم الذي نعيش فيه.. نحاول مساعدة الناس عبر فهم معاناتهم.. لقد عملتُ في المسرح منذ ثلاثين عامًا منها ثلاثة عشر في الدول العربيَّة مع فنانين عرب شباب. قدمت مسرحيتي - موت زيوس - على المسرح الوطني العراقي مع مجموعة رائعة وموهوبة من الممثلين العراقيين عام 2020 وكان من بينهم ميثم... كانت علاقتي رائعة معهم علموني أنْ أحب العراق وكان هو أفضل صديقٍ لي هناك، أخذني إلى القهوة العراقيَّة القديمة الرائعة والأسواق والمواقع التاريخيَّة، تحدثنا عن الشعر، واستمتعنا بالحديث عن الرياضة، وتحدثنا عن أحلامنا والمسرح وشغفه بالتمثيل، وضحكنا كثيراً.. كان يتمتع بروح الدعابة، مثل كل الأذكياء. لقد كان لطيفاً وكريماً معي، وأطلعني على بغداد والثقافة العراقيَّة وثقافتها. تقاليدك، موسيقاك، طعامك، حياتك.. الآن، عندما أتذكر تلك الأيام في بغداد، وأفكر في الخسارة الفادحة لصديقنا، أبكي وحدي في المنزل في مدريد ميثم كان صغيرًا جدًا على الذهاب.. لكني أعلم أنَّ هديَّة وشرف لقاء ميثم، تلك اللحظات التي عشتها معه في العراق، ستظل معي دائمًا مثل أفضل جائزة حصلت عليها، وفي كل مرة أكون على خشبة المسرح، سيكون ميثم معي.. في النهاية حب وتفاني البشر العظماء، أشخاص مثل ميثم، الذين يحاولون صنع عالمٍ أفضل من خلال الفن، هو ما يهم حقًا. إنَّه يستحق كل إعجابنا وتقديرنا كممثلٍ عظيمٍ. وسأخصص له عملاً يليق بجمال روحه».

عبر أعمالٍ مهمة ومشاركات واسعة في المهرجانات المسرحيَّة المحليَّة والدوليَّة ميثم هاشم ذلك العاشق لأرضه وشعبه قدم لبلاده ما عجز غيره رغم شأنه أنْ يقدمه لكنَّه أفجعنا وآلمنا برحيلٍ مبكر أبكانا جميعاً.