صحيح إنني أمقتُ النظام السابق، فمع استفحال دكتاتورية السلطة منذ العام 1979 حتى 2003، تعرض العراقيون بشتى قومياتهم ودياناتهم ومذاهبهم الى أنواع الظلم، ولم ينجُ أحد منهم إلا قلة قليلة ربطت نفسها ومصيرها بعجلة النظام وجنون رئيسه، غير أنَّ هذا لا يمنع من الإقرار بأنه أرسلني ملحقاً ثقافياً الى مدينة باجيرا (إقليم فرنسي يقع الى الجنوب الغربي من العاصمة، يتمتعُ بنوعٍ متقدمٍ جداً من الحكم الذاتي الذي حصل عليه في الربع الأول من العام 1970، ويحق له على وفق الدستور احتضان القنصليات والملحقيات وعقد ما تقرره حكومة الإقليم من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ولذلك فإنَّه لا يتبع المركز إلا من الناحية الشكلية)، وقد دام تكليفي قرابة تسع عشرة سنة اكتشفتُ في أثنائها لماذا تدفع الناس الرشاوى الكبيرة وتتقاتل وتتوسط من أجل الحصول على منصب سفير أو ملحق أو قائم بالأعمال، بل حتى مجرد موظف، لأنَّ الحياة في الخارج بصورة عامة، وبلدان العالم المتحضر بصورة خاصة، تستحق فعلاً مثل تلك المنافسات اللاأخلاقية (بالمناسبة حصلت على منصبي بفضل أخي في الرضاعة سرهيد الخلف، عضو المكتب الفلاحي، وهو منذ سقوط النظام يعيش في خارج العراق – مجهول الإقامة).
بعيداً عن التفاصيل فإنَّ الإنسان يحيا في تلك البلدان (حياة أوادم) كما يقال، كل شيء من حولك جميل ويشرح القلب ويبهج الروح، إفعل ما يطيب لك أنْ تفعل والقانون هو الذي يمنحك حصانة مطلقة، على ألا تخدش حرية الآخر أو تسيء الى الحريات العامة... أشعر باللذة وأنا أستذكر وجودي هناك بعيداً عن خطابات صدام حسين والحروب والخوف والحصار والجوع وتكميم الأفواه.
ما أزعجني شيء مثل الحسد الذي سيطر على حياتي وفكري، ذلك لأنَّ سفير العراق في باجيرا، كان خريج معهد النفط، في حين كنت أحمل شهادة الماجستير في القانون، والبكالوريوس في اللغة الفرنسيَّة، ولا خلاف على أنَّ كفاءتي السياسيَّة والدبلوماسيَّة والثقافيَّة أفضل من كفاءته عشرين مرة بشهادة السيد وزير خارجية إقليم باجيرا، زيادة على أنَّ الرجل لم يكن يتصرف أو يحرك ساكناً، ولا يدري ماذا يجري في العالم وفي بلاده، حتى أنه لم يعرف بسقوط النظام إلا بعد مدة طويلة نسبياً حيث بعث برقية تهنئة الى مجلس الحكم، وهو في حدود معلوماتي حافظ على موقعه سفيراً بحجة أنه تعرض للاضطهاد الفكري من قبل نظام صدام، وآخر أخباره تشير الى أنه تقاعد قبل سنوات قلائل.. أعترف أنني لا أحسده فقط، بل أكرهه كذلك، لأنه بخيلٌ ولا يُفكر إلا بتوفير الملايين من رواتبه ومخصصاته.
ذات مرة تعرضت زوجتي الى حادث مروري بسيط، ولكن مستشفى باجيرا المركزي اهتم بالأمر كثيراً، وعند زيارتي قدمت لها باقة ورد أنيقة، إلا أنها استقبلتها بوجهٍ عابسٍ، وحين توسلت إليها لمعرفة السبب، قالت لي (زوجة السفير التي ترقد مصادفة في الجناح المجاور لي، قدم لها زوجها قلادة لؤلؤ، فهل هي أفضل مني) وقد انتبهتُ الى أنَّ كلينا نمارس الحسد... قلت لها وظاهر كلامي غزل وباطنه نفاق: أنتِ أفضل منها ألف مرة، ولكن السفير أفضل مني مليون مرة...