علي الشباني.. شاعرُ التنويرِ والدهشة

ثقافة شعبية 2023/10/12
...

 سعد صاحب


كان الجيل الستيني من أقرب الأجيال الى التجريب، ليس بوصفه ترفاً أو بطراً، أو لعباً في الأوزان والكلمات وأسرار الكتابة، وإنما بوصفه رقماً صعباً لا يمكن الاستغناء عنه مطلقاً، لأنَّه المحرك الرئيس للعمليَّة الإبداعيَّة المثمرة، والشباني واحد من أسماءٍ مهمة، اتسمت أشعارهم بهذا اللون المدهش المثير بالتنوع والعمق والتنوير وتداخل الأجناس، وإلغاء الموانع بين السرد والشعر وباقي الفنون، واجتراح أساليب جديدة مغايرة للشكل القديم:
(يا هلبة يجي ويكتبني مهر اخضر/ وافتح بالهوه البيبان ع الكمره نهر اسمر/ يفتح بالمسامات الينابيع البعيده/ والقصيده/ بلبل بروحي يغني الماي والحريه والكاع والجديده).

أوهام
لم تغب عن شعره شتى الحالات الإنسانيَّة المعتبرة، فهي حاضرة بقوة ووعيٍ وإدراكٍ ومسؤوليَّة واستقراء، كالعشق والتأمل والحزن والفرح والتوتر والانفعال والأوهام والانتكاس والميول النفسيَّة الصادقة، فالمرأة دائماً موجودة في القصائد، والرايات والأحلام والثوار والبيارق ورسائل الثورة القادمة، والتنبؤ بالمستقبل السياسي القريب، وتنوع الأفكار المهاريَّة القائمة على الخبرة والاستنتاج والاقتناع الكلي بالدفاع عن الرؤيا الجديدة، والقدرة على التخطي والوصول الى مرتبة الصدارة:
(يمته يكوم بيه الطين/ ويصعد بروحي الحنين/ كمره تفيض بيه الروح كمره/ وتلعب بروحي الشمس مهره/ مهره وقصيده/ توكع بروحي ورق سدره وفرات).

تأنيب
شاعرٌ يخاطب وطنه بطريقة التأنيب واللوم والحب والعتاب الشديد والوفاء والاستحقاق، فيتداخل الفكر اليساري بالوجد والهيام، وبقضايا الوطن المصيريَّة الحسَّاسة الى درجة الخطورة، ومن المعروف أنَّ الكتابة عن المواقف الخالدة تحتاجُ الى شعرٍ عموديٍ صاخبِ الإيقاع والقافية، لكنَّه عبَّرَ عنها حداثياً، من دون تعثرٍ أو نقصانٍ أو تراجع، متخذاً من الانتقاد والمباهاة وشحذ الهمم ومواجع الحاضر والطموح والأمل المنشود، خلطة لقصيدته الباذخة الجمال والحضور والتشخيص والتأهيل والكفاية:
(الملم كل عطش روحي واشتله ابابكم سدره/ جبيره وبالعطش ثوب السواجي ازغار/ حزينه وبالربيع اتخضر الهه اعشوش/ يالعمرك فرح مرشوش/ يالحزنك خبز يبجي الصبح عالناس/ يالعشكك درب مسكون/ ون من الزغر بالراس).

ساقية
هناك حيزٌ واسعٌ للمكان الفراتي الأليف، متمثلاً بالماء والنخيل والشمس والعشب والخضرة والساقية والافياء والقمر والطيور المغردة، والانحياز واضحٌ الى تلك الأجواء الطبيعيَّة التي تعيدُ الإنسانَ الى أيام الطفولة:
(يركض بروحي الفرات الزين دهله/ يصعد بروحي الحجي الواكف ضمير/ وانته ذاك الماي كل دنياك
سهله).
أما المكان المديني فوجوده محدداً بالمدرسة والبيت والمنارة والمقهى والشارع ومجالس الأصدقاء، وحتى هذه الأجواء المفعمة بالحياة، يدخلها الشاعر بمختبره السري، ويخرجها لنا بحلّة أخرى جديدة مختلفة كل الاختلاف عن معناها المتعارف عليه عند الناس:
(يمته اشوفك/ جفك يجيب الصبح للبيت/ وينام الصبح ويه الزغار/ يكبر بحلم الزغار/ دنيه وولايات/ يكعد بدرب المدارس عافيه وورد الصبح/ يمته اشوفك/ مهرك يدك الحوافر ع الهوه رايات).

وحشة
الشباني مفرطُ الإحساس إزاء مفردات كثيرة، من ضمنها الوحشة والتغييب والأنثى والوحدة والفراغ والغضب، وما يقلقه عدم الإيفاء بالوعود، سواء من قبل السياسيين أو من النساء الفاتنات، أو من الأصدقاء القدامى الذين ارتبطَ معهم بمواثيق الشرف والإيمان والانتماء والغايات الكبيرة، ومن شدة الإحباط والنكوص والخذلان راح يبوحُ بما يحاصر الروح من البلاء والطعون والإخفاق والتمييز والتفريق:
(مهموم درب الدمع حد للصدر ويموت/ امي حرز للحزن/ كتبتني جوع المدن طشت الغيبه بخت/ حركت الشيله شمس/ والجيله بيدي عمت/ كالت عمر مبخوت/ انته ورد للحزن وبلايه سكته
تموت).

امتداد
قصائد لها سطوة التوسع والامتداد والعبور، لم تختصر بقالبٍ واحدٍ وتسعى وراء التجدد باستمرار، مرة تتخذ من البلاغة العالية سمة لها، ومرة تكون أقرب الى الشعرات الثوريَّة المنددة بالحكام، ومرة يغلفها الغموض الجميل، وفي كل الحالات المذكورة تبقى محافظة على فنيتها المعهودة، ولا تستغرب إذا صعب عليك التفسير وأخذتك الظنون صوب عالمٍ غائمٍ
حزين:
(أول ما يشوف العين وبروحي يفرفح ضي/ يمر بيه الكمر والمي/ واجيب الشمس واوكفلك يالسمر في).ـ