عندما تتحول الفكرة المجنونة إلى مهرجان

منصة 2023/10/16
...

 بيتي فرح
يرتبط اسم الحرب دوما بالموت والدمار، بالخوف والتهجير والتشرد، صور تجذرت في ذاكرة السوريين كافة، لكأنها تنتقل بالحبل السري بين الذاكرة والجنين، الذي أصبح جواز سفره مرهونا بنكبة الانتظار التي فاقت الحرب بؤسا"، حتى تحولت اليوميات إلى مادة من مقتنيات الحرب التي لا تريد أن تنتهي. واقع يثبت أن الحروب اللقيطة، تُنسب للبدايات فقط .
إلا أنه لكل قاعدة شواذ، وما أحلى القاعدة التي تمشي بعكس الحزن، العازمة على صنع الفرح، عندما يتحول الحزن إلى مهرج، والفكرة المجنونة إلى مهرجان، في بلدة اسمها مشتى الحلو، في محافظة طرطوس السورية، إنها قصة شجرة الدلبة التي فاق عمرها عن 500 عام، حيث سقط منها جذع ميت عملاق في شتاء عاصف، ووقع على الأرض التي ارتجت لثقل وزنه، إلا أنّ للشجر أرواحا نجهل عددها، فثقافتنا محصورة بعدد الأرواح السبعة للقطط فقط ، ونجهل الكثير من لغة الطبيعة التي تعرفنا أكثر مما نعرفها.
مشهد الجذع المستلقي على الأرض، تشبّث بمخيلة شاب نزح من مدينة الحسكة في الشمال السوري إلى مسقط رأس والده هربا من بطش "داعش" والصواريخ العشوائية، لتخلق فكرة تحويل الجذع الميت من الغصن إلى تمثال فني، وبالفعل تحولت الفكرة إلى واقع، وكبرت لتتحول إلى ملتقى ثقافي واجتماعي وفني، ضخ الحياة مجددا في المنطقة، أعاد لها اسمها كسابق عهدها، وأعطى أبناءها المقيمين والنازحين جرعات من الصبر والأمل .
أسطورة الخلق تظهر من جديد
بكثير من الأفكار والاصرار، أُقيم الملتقى الأول للنحت عبر تحويل الجذع إلى منحوتة ترمز للحياة والتمسك بالأرض, رغم دموية الأحداث، كانت بداية قوية للنشاطات الثقافية والفنية التي توسعت دائرتها إلى ان تم فعلا تأسيس الملتقى الثقافي العائلي في منطقة مشتى الحلو، ليضم العديد من أبناء المنطقة ومن المحافظات الأخرى بكافة فئاتهم العمرية وانتماءاتهم، الذين أضاؤوا إلى تقاليد المنطقة، عبر إحياء عاداتها وتنشيط الحرف التقليدية "كالحريرة" (نوع من أنواع الحلويات التي كانت تصنعه الجدّات، يصنع من عصير العنب المغلي، و يُمدّ على شرشف كبير ريثما يجف، ينزع عنه لاحقا، ويقطع إلى طيّات مربعة الشكل) بالإضافة إلى "الكركة" التي يصنّع بواسطتها مشروب كحولي يسمى (العرق) مكوناته عصير العنب واليانسون، اشتهرت به المنطقة، يتزايد شربه في الشتاء البارد للحصول على الدفء والاسترخاء. وفي المناسبات الخاصة أيضا. أثناء تصنيعه يجتمع  الشيبة والشباب حول النار المتقدة تحت الكركة يغنون أغاني التراث والعتابا لكسر الوقت، ريثما تمتلئ قناني العرق الشفافة. حرف متوارثة أصر الشباب على استرجاعها منعاً للاندثار، فأهمية إحياء هذه التقاليد تكمن في إحياء الماضي المجبول على القيم والأخلاق والمحبة، في نفوس الجيل الجديد الذي سلبت لبه الشبكة العنكبوتية العالمية، التي قطعت معظم صلاته بالعادات الاجتماعية وحتى العائلية .
تطور العمل فيما بعد.. واستوحت فكرة البازار من المهرجانات الأوروبية التي كانت تفخر بأهم منتجاتها المحلية كمهرجان الجبن البريطاني الذي تتخلله ندوات وبرامج متعددة، فالريف السوري غني بالصناعات التقليدية المتنوعة، منها الغذائي ومنها الحرفيّ الذي سُخّر لتسهيل الحياة اليومية، لتتم الإضاءة على صناعة الجرار الفخارية والسلال المصنوعة من القصب، والجميل بالأمر أن جميع هذه النشاطات تتم تحت الشجرة العملاقة الأم، وفق طقس احتفالي تحول إلى مهرجان سنوي عماده شباب متطوعون بأعمار متفاوتة، يعملون كخلية النحل بكل حب، مزودين بالحرص على إحياء تراث الأجداد بإمكانيات مادية بسيطة، تعتمد على التبرعات .
الملفت في الحروب أنها زاد دسم لجائع الفرح، يبحث عن لقمة البقاء في ابتسامة، ربما تعوضه بعض الشيء عن فقدان البيت والعائلة والمستقبل، تعزز إيمانه وشكره أنه مازال على قيد الحياة والأمل، فجرعة الأوكسجين مدفوع ثمنها بكيس من دنانير الصدفة  الهاربة من صاروخ ما، فيستقبل بذراعين مفتوحين ذاكرة جديدة مبرمجة ببعض الخدر
والنسيان .
يستمر نشاط الملتقى الثقافي في بلدة "مشتى الحلو" التي كان لاسمها صدى سياحي مرموق قبيل الحرب. وتتطور برامجه ليستقبل الفنون كافة، توزعت بين الرسم والنحت، والعروض المسرحية والأوبرالية الموسيقية والغنائية، كان مسرح العرض لإحداها في دار معمل الحرير في المنطقة، الذي توقف عن العمل منذ عقد من الزمن، تحت فسحة سماوية  أضاءت العرض، وتنازلت للحكومة عن تيارها الكهربائي الموجود غالبا خارج الخدمة. إضافة إلى أمسيات المباريات الزجلية، القائمة على التنافس الارتجالي للشعر المحكي بلهجة المنطقة، ويستقطب الملتقى كبار الزجالين اللبنانيين إلى أمسياته .
بالإضافة إلى استقطاب المواهب الصغيرة والشبابية، التي تعنى بالمجال الثقافي والاجتماعي والفني بأنواعه، وصولا إلى التكنولوجي، وتخرج المواهب من باب الملتقى الثقافي العائلي في مشتى الحلو، إلى عالم الاحتراف، مرورا بمنظمة اليونسكو التي شجعت بعض الهواة وحصلت على بعض نتاجهم . واليوم وبعد تراكم الخبرات، حصل على الترخيص الرسمي، واضحت الفعاليات على مستوى المهرجانات الكبرى.
بعد مرور السنوات على الحرب السورية، تجتاحنا حرب أخرى لا تقل ضراوة عن تهلكة الرصاص والنزوح، وهي هجرة العقول السورية إلى الخارج الأمريكي والاوروبي والعربي، لتهبنا فيما بعد القارة العجوز لقبها المقيت، ويدون التاريخ الإنساني على أجندته، أنه السفربرلك السوري بتاريخ حديث، وكأن قدر هذه البلاد أن تعيش فعلا كأنها من مقتنيات الحرب، التي لا تريد أن تنتهي.