الفن الفطري.. حقائق شعبيَّة ومقارباتٌ أسطوريَّة

ثقافة شعبية 2023/10/19
...

  جمال العتابي


الفنان الفطري، هل له موقف ما من العالم ؟

هل يملك صوته الخاص أو لغته التعبيرية، وهل حاول من خلالهما تحديد موقفه أو موقعه من هذا الوجود ؟

هذا الفنان البسيط المغمور، يرى العالم من خلال منظوره الخاص، وقد تلتبس عليه الرؤية إذا ما وجد أن وسائله التعبيرية لا تمنحه قدرة الوصول إلى المقاييس الجمالية التقليدية المعروفة، فهل يحزن لهذه النتيجة أم أنّه، داخلياً لا يريد أن يكون أسيراً لها ؟. 

أم أنّ اللعبة لا يعرفها أصلاً، وهو بالنتيجة لا يعرف أصولها.

الفطرية مفهوم قائم بذاته، متأثر بالرغبة في خلق شعور بالجمال البدائي، والتعبير التلقائي الخالي من أي تعقيد أو غموض، أو رقابة فنية أو فكرية، وهذا ما تجسد في فخاريات العراق القديم التي صنعها إنسان تلك العصور. 

ويشار إلى الفن الفطري أحياناً باسم الفن البدائي، كما يتداخل مع ما يسمى بالفن الخارجي، أو مع الفن الفرنسي المتوحش، وهذا يشمل ما يرسمه الأطفال، أو ذوي الحاجات الخاصة، مثل، السجناء والمعاقين، والمصابين بأمراض عقلية، على خلاف الفن الفولكلوري أو الشعبي، الذي يتبنى نهجاً تبسيطياً مشابهاً، وبالضرورة لايستند الفن الفطري  إلى سياق ثقافي أو تقليد متميز، إنما أمتاز ببساطة التنفيذ، وميل نحو الألوان المشبعة اللامعة، مع غياب المنظور في أغلب الأعمال. 

في العراق تبدو تجربة الفنان الفطري منعم فرات مثالاً للمعادلة الصعبة في العطاء باعتباره وجوداً استثنائياً، إذ دخل حيز الاسطورة ومجالها الواسع والحيوي من مكونه البيئي والنفسي، فهو خضع للمخزون المعرفي الشعبي، أي أن الرؤى المتحكمة في وعيه هي الحقيقة الشعبية التي انتجت مقاربات اسطورية تعيش في عالم لم نصل بعد اليه، على حد وصف النحات محمد غني حكمت، ومضى أحد المستشرقين الايطاليين أبعد من ذلك، في القول أنه يفضله على بيكاسو لأنّه شيء نادر. 

وهكذا يلتقي مع كل الفنون العفوية التي يبدعها الإنسان، اعتباراً من فنون البدائيين حتى عفويات الفن الطفولي، ولكننا باستخدام الخيال، نستطيع أن نكون في ألفة عاطفية مع الأعمال التي ينجزها الفطريون، فالامتثال الهادئ لمخلوقاتهم الطيبة المستكينة، ستقودنا إلى ينابيع أحلامهم، فأنت المتلقي، أنظر فقط، وكي لا تبدد ذلك السحر الذي ينتشر كالفرح حول هذه العذرية، اكتف بالتأمل في هذا الشيء المختل النسب، الصغير الكبير، الخارج على المقاييس الجمالية، البعيد والمباشر معاً، ثم انتقل معه إلى عالم آخر هو غير عالم الجماليين، إنك بذلك فقط، سترى كيف تكون الأيدي هي اللغة الكاملة بكل أصواتها، وأنّ العيون تضيء بنور داخلي، والشفاه تخاطب على البعد أناساً غير منظورين، وأنّ الابحار عبر هذه المخلوقات غير مأمون لمن يركب مركب الناقدين، ولهذا يغدو استذكار هذه العذريات أمراً في غاية الصعوبة، لأنها سرعان ما تغادر شبكية العين وتختفي في الداخل.

ثمة خيط سري غير منظور يوصل مابين الأعمال الفطرية، وبين الطفولة التي ودعها كل منا وهاجر إلى مرافئ لا سبيل للرجوع منها إلى نقطة المبتدئ، إلا برؤية هذا الضرب من الفن، إنه لون من ألوان التعزية لمن يعاودهم الحنين إلى تلك المرافئ الجميلة إبحاراً بعين الخيال المظلمة.

    في بحر الوجود تلتقي كل الأشرعة، غير أن من يزعم بأنه قادر على فهم هذا الفن بالتعريفات كمن يجازف بأن يجعل من النجمة حليةً لزوجته !

الجوهري المهم، أن في هذا الفن تكمن الأجوبة الصامتة لأسئلة محيرة كانت قد أفلتت من النفس بفعل الحيرة أمام روعة الوجود ذاته، وسيان أن تكون هذه الأجوبة في منطقة الضوء من أبصارنا، أم في منطقة الظل من بصائرنا، فهي على كل حال، كالأثمار المضيئة في أشجار غابية وهبتها الأرض دفق حليبها المغني، لتهب الوجود ثماراً دانية من دون إمنان.

ثمة من يفسر هذا الاثمار العفوي كشرعة من شرع الطبيعة، أوغلت في الوجود الإنساني حتى كهوف " التاميرا"، وان يقظات زمنية ما، تلازم تاريخ الإنسان تحدث فيه مثل هذا الانفعال، ليتبعه من بعد، التعبير عن الرؤية وما يوازيها من تأليف تشكيلي يوحي بالجانب الوجودي ذاته، وهنا تكمن قوة الفن الفطري، المبرأ من عقدة العلم، لانه أشبه ما يكون بأشجار " سيزان " التي يصعب على المرء تسلقها، أو أن يأكل 

فاكهتها.

هؤلاء الفنانون يريدون أن يتحدثوا بلغتهم الخاصة، وحين كان عليهم أن لا يلثغوا بأصواتهم ومخارجها الصعبة أحياناً، والسهلة أحياناً أخرى، أخضعوها لقوانين نطق أشبه ما تكون بقوانين الطبيعة ذاتها، فولدت عفوية كأحجار الجبال التي تجرفها السيول إلى أعماق الوديان، ما تستطيع أن تشفّ عنه دمية مرمرية من معان ، هو تاريخ النفس التي تفجرت ينابيع، وهو السيرة الذاتية لفنان أراد أن يصبح حراً وعارياً 

كمولود جديد.