قراءةٌ في اللحظةِ الفلسطينيَّة

منصة 2023/10/24
...

 عادل الصويري

اللحظة الفلسطينيَّة الحالية، تقدم الزمن مضفوراً بالترقب. يشاهد نفسه أمام مرآةٍ تهشمت بالمكبوت من صراخِ الأطفال، وذهولِ بياض أرواحهم أمام نخبة العالم المتجرد من ضميره. إنها النخبة التي لا تجيد الاندماج بالأنسنة، إلا من خلال نصوص متخيلة فارغة، لا تنتمي للإنسان ولصوته المعذب.

ليس بوسعي القول إنّي أتفق كثيراً مع أفكار علي حرب؛ لكنّي مع التداعيات المستمرة للحظة الفلسطينيَّة المطعونة؛ أجدني مهتماً بإعادة قراءة كتابه (أوهام النخبة)؛ لأن المعلن من مواقفها يثير اشمئزازي، ويصيبني بالغثيان.
كيف للطاهر بن جلون صاحب "العتمة الباهرة" أن يمنح لضميره مساحة شاسعة جداً من تلك العاتمة، فيرى اللحظة من زاوية واحدة للعتمة، ليصب جام غضبه على من يدافع عن أرضه، منتصراً لصواريخ حربية لا علاقة لها بكل ما هو خصم عسكري، واكتفت بقتل الأطفال والمسنّين والجرحى داخل مستشفى مدني؟
هل يصل الاختلاف الفكري بين العلماني والإسلامي لدرجة انتصار العلماني للمجرم والمعتدي والمحتل، فقط لأن الذي يدافع عن أرضه وحق شعبه إسلامي؟
هل فهم (بن جلون) وغيره من علمانيِّ الصدفة الصهيونية "مآزق التفكير" حتى يفهموا الحرية أو الاستنارة؟ بالتأكيد لا، فهؤلاء أصبحوا بعيدين جداً عن تنوير الناس؛ لفشلهم في "تجديد صيغ العقلانية" بحسب تعبير علي حرب الذي يصل إلى قناعة أن مثل هذه النخب هي من يحتاج للتنوير؛ لأنهم تعاملوا مع فكرة التنوير نفسها على نحو غير تنويري، وكأنهم يريدون إخفاء شيء مهم وواضح، وهو فشل ادعاء الديمقراطية وحرية التعبير.
هذه النخب أصبحت الحبر الذي تُكتب به أوهام الحرية، وصدى الأصوات البائسة المنادية بحقوق الإنسان. إنها العذر القبيح لمؤسسة تُسمى (مجلس أمن)، لكن أعضاء المؤسسة يرفضون أي حديث عن وقف الحرب التي تقتل الأطفال. إنهم يسبحون في بركة هائلة من الشيزوفرينيا، فالتنظير تنويري، والموقف أصولي مؤدلج. إذن، هذه اللحظة كشفت أن مشكلة النخبة الثقافيَّة والفكريَّة تكمن في نخبويتها، وهذا المعنى أشار إليه علي حرب، بقوله: "ذلك أنَّ النخبوية، قد آلت إلى العزلة والهامشية، وأنتجت التفاوت والاستبداد، بقدر ما جسدت الاصطفاء والنرجسية".
ولو أجاز لي علي حرب، لغيَّرت مفردة الاصطفاء وأبدلتها بـ (الانطفاء)؛ لأنها تناسب كثيراً تعاطي أكثر النخب مع اللحظة الفلسطينيَّة الحالية.
والانطفاء النخبوي تسرب فعلياً إلى مواقع التواصل الاجتماعي، التي ظهرت على حقيقتها بوصفها منصات ناطقة باسم الصواريخ والقذائف التي تقتل المدنيين في غزة؛ ليكون معاضداً للموقف الإعلامي والتواصلي؛ لتكتمل عناصر الحفلة اليهودية. البعد الآخر من الوهم النخبوي؛ تمثل في تلك النزعة الطائفية البغيضة، التي حوّلت الصراع الفكري تجاه هذه اللحظة من علماني/ إسلامي، إلى سُنّي/ شيعي. وقد لعبت القنوات الفضائية، وبعض تدوينات المدونين دوراً كبيراً في الترويج لهذه الثنائية. والمضمر طبعاً من قصديتها هو غض النظر عن آلة القتل الجماعي الوحشية في غزة، وإظهار خصم تلك الآلة بمظهر المتشدد، مع التركيز على السخرية الباردة من مفردة (مقاومة)، وتحويل تلك السخرية إلى واقع تواصلي.
إننا إزاء اهتزاز صورة المثقف النخبوي، الذي يعيش تخيلاته ممزوجة بطموحات تفرض الاقتراب من الإيديولوجيا، مشيحاً بوجهه عن الواقع وتحولاته؛ وذلك بعد تصدع تفكيره، وفي منظومة القيم بشكل عام.
هذا التصدع حوَّل النخبوي من حارس لأفكاره، إلى حارس لطموحاته المؤقتة، حتى وإن اصطدمت بصراخ الأبرياء الذين تحولوا إلى أرقام جافة على مانشيتات أخبار القنوات الفضائية. وبالتالي أصبح هذا النخبوي عديم الجدوى، ولا فائدة ترجى من دوله أو قول، الأمر الذي يدعو إلى أن نقتبس الـ (أحّا) التي أطلقها باسم يوسف في لقاء تلفزيوني للحديث عن عن هذا التعاطي المربك مع اللحظة الفلسطينيَّة. لم يعد للضمير الإنساني من خيار سوى تلك الـ (أحّا) لمواصلة التفرج على هذه الكوميديا الطاعنة في السواد.