خالد خليفة.. آخر الضحكاتِ والسكاكين

منصة 2023/10/24
...

  علي العقباني

أخبرتك يا خالد أن "الموت عمل شاق" لكنك قلت إن "الموت بسيط كما لو أننا نرشف الما على الأرض، هذا موت وذاك موت".. هنا كنت تتحدث عن موت وطن، وهنا تتحدث عن موت آخر، تقبل الرحيل أيضاً عمل شاق، تقبل الغياب وتصديقه عمل شاق، قل لنا إنها خديعة وسنصدقك، وأنك ذاهل لتحرس أحلامنا هناك حيث تنظر إلينا من عليائك، هل يمكن لنا أن نعاتبك على موتك يا رجل، على رحيلك الموجع والمر والمؤلم، وأنت تعلم كم الحب الكبير لك عند الناس لرقصتك وجنونك ومشاكساتك وضحكتك المجللة، للمسلسلات التي صنعتها مع هيثم حقي وشكلت علامة فارقة في الدراما السوريَّة، لرواياتك التي منذ حارس الخديعة حتى مخطوطك الأخير.. تقول كأنك ترانا واحداً واحداً وقرأ ما نفكر ونحلم ومما نخاف وبما نحلم، هل اكتفيت من هذا الوجع؟  أنت لا تنسحب أبداً، نعلم لديك الكثير لتقوله للعالم، أم هل كنت تبحث عن عالم أقل قسوة وتوحشاً؟ ها أنت تغلق على العالم ابوابه وتذهب وتتركه وحيداً.
لم يتمكن خالد خليقة يوما العيش، أو لم يرغب العيش خارج أمكنته وناسه، وهو الرجل الذي سافر العالم، وكان بإمكانه الاقامة حيثما شاء، لكنّه وكما يقول عنه الشاعر سامر أبو هواش لم يستطع أن يتخيّل نفسه خارج أمكنته وأناسه وأهله وأصدقائه. خارج طقوس عيش وكتابة، باتت جزءا من هويته وتعريفه لنفسه وللعالم. زيوريخ، وأوروبا كلها، جميلة، وآمنة، وهو الحاضر فيها كاتبا مكرّسا مكرما، منذ ترجم عددا من رواياته إلى مختلف اللغات الأوروبية، وإلى الإنكليزية بالتوازي معها، لم يكن يرى نفسه كاتبا منفيا، ولا اعتبر الحرب الطاحنة التي عصفت بكلّ شيء جميل يعرفه في سوريا، بوصفها فرصة لتحقيق "شهرة" و"عالمية" لم تكن تساوي عنده سوى ما تتيحه من احتمالات وإمكانات للسهر والسمر مع الأصدقاء ولحكايات تتناسل من تلك "الفرص"، تطبخ على مهل على مائدة الليل الذي لا يريد له أن ينتهي. ليس ذلك الليل الكالح المظلم الكئيب، بل الليل بوصفه عتبة الفرح والألفة والمسرات، ليل ترتفع فيه أبراج الضحك والفرح الأصليّ بالحياة، ذلك الفرح الذي بدا أن الحياة نفسها تقصر عنه، وعن بيانه على أكمل وجه، فكانت ضحكته الهادرة، دليله ودليل كل المحيطين به والذين باتوا جزءا من تلك الضحكة بتلاوينها الكثيرة، وبكلّ ما جرته عليها الأيام من جروح وندوب. يقول الكاتب التركي الساخر عزيز نيسين ساخراً من الموت ومن عدم إمكانية أن يكتب عن تلك الجربة :(يا خسارة، لن استطيع كتابة كيف مُت، وأكثر ما يُزعجني هو هذا الشيء، فالكاتب حتى لو دوّن كل لحظات حياته، إلا أنّه سيبقى عاجزاً عن كتابة موته، على الرغم من أن الموت من أهم حوادث الحياة، وها أنذا ذاهبٌ دون تدوين أهم لحظة من لحظات حياتي)، بالرغم من أن خالد خليفة كتب عن موتنا جميعاً.. عن الموت السوري والكراهية والخديعة وحاول إخفاء كل سكاكين المطابخ في هذه المدن التعيسة، وبالرغم من أنه أوصى ممازحاً ذات يوم أحد الأصدقاء: إذا مت صلوا عليّ أنت والشباب الطيب، فقد صلى عليه أصدقاؤه ومحبوه والكلمات ودوت ضحكاته المجلجلة في سماء المدينة، وهو الرجل الذي كان يعيش الحياة بصخب وحب لا متناه لاهياً بها وعابثاً بموتها المؤجل، هذا القرباطي المدهش بسخريته وجنونه وحبه وسرعة ألفته مع الناس صاحب "دفاتر القرباط" والتي تعود بأمكنتها وأحداثها إلى حلب التاريخية وعوالمها الآسرة بشراً وحجراً بشرها وريفها وقرباطها، وهي رواية جميلة ومؤثرة، مشبعة بالأجواء الأسطورية والحكايات الساحرة والغرائبية، وفيها يوجه صاحب "حارس الخديعة" الرواية الأولى لخالد 1993،  إدانة واضحة للواقع الحزبي والسياسي في سورية والتي نشرت في العام 2000، ووصلت روايته "في مديح الكراهية" إلى القائمة القصيرة للبوكر في العام 2008، كما وصلت روايته "لا سكاكين في مطابخ المدينة" إلى القائمة القصيرة للبوكر في العام 2014.
ولد خالد عام 1964 في أورم الصغرى بمحافظة حلب السورية، وله من الروايات: "لم يُصلِّ عليهم أحد"، عن دار هاشيت أنطوان - نوفل، ودخلت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2020، و"الموت عمل شاقّ"  و "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" (حصلت على جائزة نجيب محفوظ للرواية ووصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية)، و"مديح الكراهية"، رشّحت لجائزة الاندبندت العالمية وكذلك لجائزة الرواية العربية (البوكر)، و" دفاتر القرباط"، و"حارس الخديعة"..  
كما وكتب سيناريو المسلسلات مثل: "قوس قزح، سيرة آل الجلالي، ظل امرأة، العراب"، حتى رحل عن عالمنا في 30/ أيلول 2023 أثر احتشاء عضلة القلب في دمشق.