المسألة الفلسطينيَّة وخيانة المثقفين

منصة 2023/10/25
...

 حسن الكعبي 

المسألة الفلسطينيَّة في تصورات ادوراد سعيد ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإطار العام للنزعة الاستعماريَّة الامبرياليَّة، وبالصورة النمطيَّة الدونيَّة للشرق ومحاولة اقتلاعه وتمثيله، انطلاقاً من هاجس تيولوجيا التقدم المسيطر على مسارات التفكير الكولونيالي، فالشرق ضمن هذا المسار يجري تنميطه في صورة البربري الدوني المتوحش والإرهابي الذي يجب أن يمثل، ويعاد تركيبه، وفي سياق هذا التنميط تبرز العصابيَّة النرجسيَّة التي ترفض معايشة هذا البربري، ليحل بدلا من ذلك هاجس إبادته والقضاء عليه، لذلك فإن - ادوارد سعيد - يرى أن {الخطيئة الكبرى} التي اقترفتها إسرائيل تتمثل في الطبيعة الصهيونيَّة المتأصلة فيها، والتي ترفض العيش بسلام بجوار الشعب الفلسطيني.

الصهيونيَّة اخترعت إسرائيل ومعها اخترعت سرديَّة يعادُ صياغتها مراراً مفادها أنَّ الفلسطينيين هم شعبٌ ظهر في غفلة من الزمن «ومنذ عهد قريبٍ الى حدٍ ما وليس لهم تاريخٌ من الاقتلاع والتشرد والاضطهاد المستمر من جانب إسرائيل والصهيونيَّة»، هذه السردية تتكرر في الخطاب الصهيوني وجرى تأييدها في ما بعد في الخطاب الأميركي الامبريالي، وهي تختزل كما يقول - دانيل زولو – «القصة الكاملة للغزو الصهيوني لفلسطين وإعلان دولة إسرائيل من جانبٍ واحدٍ يتمحورُ حول كيان أيديولوجي ستجسده في مرحلة لاحقة استراتيجيَّة سياسيَّة منهجيَّة تتمثل في إنكار وجود الشعب الفلسطيني».

يتصل هذا الإنكار بإضفاء صفاتٍ على الفلسطينيين، في إطار الصورة النمطيَّة الاستعماريَّة التي كان الزعماء الصهيونيون ينشرونها ضمن الفكرة التي تقول بأنَّ مهمة اليهود كانت تتمثل في امتلاك زمام الأمور في إقليمٍ متخلفٍ هجره سكانه بهدف إعادة بنائه من أساسه و›تحديثه».

تفكيك ادوراد سعيد للمنظومة الصهيونيَّة، يستبعدُ أي اختزالٍ تبسيطي متهربٍ من مسؤوليَّة التحليل العميق لها، والذهاب باتجاه التفسيرات النمطيَّة الشائعة التي ترى أنَّ قيام دولة إسرائيل، يحفزه هاجسٌ دينيٌّ، وهو ما يعارضه تماماً، إذ يرى أنَّ «الحركة الصهيونيَّة ركزت أنظارها على فلسطين. ولم يكن ذلك لأسبابٍ دينيَّة، بل لأنَّ عدداً كبيراً من أتباع هذه الحركة كانوا يعتقدون أنَّ فلسطين كانت تمثل ‹أرضاً بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض›، بحسب مقولة إسرائيل زانغويل».

إنَّ المسألة الفلسطينيَّة عند سعيد تخضع لتحليلاتٍ عميقة تستبعد أي شكلٍ من أشكال الاختزال والكليشيهات المسبقة المتداولة، وينقلها الى مجالات جدليَّة تتعقب الجذور التاريخيَّة التي تقف وراء ما يحصل على أرض فلسطين في هذه الأيام وتدمير ما تبقى من قطاع غزة والضفة الغربيَّة، والمجازر البشعة التي تُرتكبُ بحق الفلسطينيين، وهذا ما يضفي على كُتب ادوارد سعيد الأهميَّة والحضور المستمرين والاتكاء عليها كمرجعيَّة ثقافيَّة وفكريَّة في محاولة تفسير ما يحدث.

إنَّ قيام إسرائيل والمجازر التي ارتكبت ولا زالت ترتكب والتي تكاد لا تنتهي، لم تحدث إلا بالتواطؤ الكبير والغطاء التبريري والدعم الفاضح من أميركا، وهو أمرٌ معروفٌ، منذ جيمي كارتر الذي صرح «في حملته الانتخابيَّة وفي جزئها الأخير ما مفاده أنَّ اسرائيل لا تتحمل أيَّة مسؤوليَّة تجاه الفلسطينيين»، والى جون بايدن الذي أكد ضرورة القضاء على حماس واتهامها بأنَّها المسؤولة عمَّا يحدث؛ لأنها على حد قوله «تختبئ وراء المدنيين» كما أعرب عن ثقته في أنَّ الإسرائيليين سيبذلون كل ما في وسعهم لتجنب قتل المدنيين وأنَّ «إسرائيل سوف تتصرف بموجب قواعد الحرب».

تندرج هذه التصريحات في سياق إيجاد ذرائع لتبرير المجزرة والتغطية على الإرهاب الصهيوني. ويترشح عنها دلالات تؤكد الاعتراف الكامل بحق إسرائيل وبكونها تخوض حرباً مقدسة ضد الإرهاب، وبالمحصلة فإنَّ كلا هذين التصريحين يمثلُ عمليَّة محوٍ للتاريخ وتشويهه وإحداث تحويلات ضمنه تجعل من الضحيَّة جلاداً ومن الجلاد ضحيَّة؛ بمعنى أنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة تختزلُ ضمن هذا الفهم بالإرهاب الذي يتوجب القضاء عليه، بإحلال قيم الديمقراطيَّة والحريَّة والعدالة التي تفيض بها التصريحات الأميركيَّة في محاولة منها لإخفاء سجلها الدموي وصناعتها للإرهاب ودعمها الكامل للنظم الاستبداديَّة، بلغة الخيرالتي تسوقها وسائل الإعلام، كالحفاظ على أمن الفلسطينيين وحقهم في تقرير المصير الوطني لكنَّ هذا الحق كما يقول ادوارد سعيد «يبدو الآن كأنَّه ليس نتيجة كفاحهم وإنما ضمن إطار التبني الأميركي لمحاولة إيجاد حلٍ لهم، بعدّهم مصدر إزعاج أو بعدّهم إرهابيين».

نفذت المجازر بأسلحة أميركيَّة متطورة وبدعمٍ كاملٍ منها، وهذا نابعٌ من سياسة التدخل الكامل من أميركا في تقرير مصير الشعوب، كهاجسٍ مسيطرٍ على تفكير المنظومة الامبرياليَّة وطموحاتها المتوثبة في تكوين امبراطوريتها، إذ يمكن للمرء – كما يصف والتر لافيبير الوضع الأميركي -»ان يرى التاريخ الأميركي من خلال تلك السياسة الدؤوبة القائمة على التدخل، المؤثرة في حياة الشعوب الأخرى».

إنَّ سياسة التدخل الأميركي أمرٌ معروفٌ، لكنَّه في الوضع الفلسطيني يتعدى حدود التدخل الى الخضوع الكامل والانصياع للإرادة الصهيونيَّة، وهنا – كما يقول سعيد: «تكمن المأساة الحقيقيَّة التي صعقت الفلسطينيين والسبب الرئيس في الهزائم المتلاحقة التي لحقت بهم في أنَّ الصهيونيَّة كانت تمثل أكثر من مجرد شكلٍ من أشكال الاحتلال والحكم الاستعماري ‹من الخارج›؛ فقد حققت هذه الحركة نجاحاً كبيراً وضمنت مساندة الحكومات والشعوب في أوروبا، وهو ما لم يسبق أنْ حصل في ما ماثلها من المشاريع الاستعماريَّة الأخرى».

تذهب بعض التفسيرات الى أنَّ هذا الانصياع ناجمٌ عن ضغوط ما يصطلح عليه بـ»اللوبي الصهيوني» وهي تفسيرات تحملُ بعضاً من الصحة، لكنَّ هذا المصطلح هو ظاهرة ثانويَّة كما يقول ادوارد سعيد ويجب استخدامه في سياقٍ متحررٍ نسبياً من الكليشيهات، فأميركا تستمدُّ وجودها وقوتها من المجتمع الأميركي، وهو ما يسميه ادوارد سعيد المجتمع المدني، في إشارة الى المؤسسات الثقافيَّة كفاعلٍ مؤثرٍ في القرار السياسي.

ضمن هذا المنظور الطباقي تعزى هذه الأحداث الى الصمت الثقافي وانسجامه مع القرار السياسي الأميركي، وهو ما يسميه سعيد بـ»خيانة المثقفين»، وهذا الانسجام يعملُ على محو التاريخ الثقافي في فترة الستينيات التي سمحت بوجود مثقفين مساندين للقضايا الإنسانيَّة وبالضد تماماً من التوجهات الامبرياليَّة، أمثال تشومسكي واليفر ستون وقائمة كبيرة من المثقين الذين أدرجوا ضمن القائمة السوداء بموجب لجنة المكارثية التي اقترحها كيسجنر لقمع هذا التوتر الثقافي المقلق للسياسة الأميركيَّة.

وعلى الرغم من سيادة العرض النرجسي في الأوساط الثقافيَّة والاجتماعيَّة وهو عرضٌ يعبر كما يقول - جيل ليبوفتسكي : «عن وعيٍ جديدٍ للغاية وبنيَّة عضويَّة في الشخصيَّة ما بعد الحداثيَّة» إلا أنَّ ادوارد سعيد يعقد الأمل عليه كأهم احتمالٍ في حل الأزمة.

استشرافات ادوارد سعيد في استنهاض الضمير الثقافي والمجتمع المدني بدأت تظهر مع استقالة جوش بول المسؤول في وزارة الخارجيَّة الأميركيَّة بسبب تعامل إدارة الرئيس جو بايدن مع الصراع في إسرائيل وغزة، بإعلانه أنه لا يستطيع دعم المزيد من المساعدات العسكريَّة الأميركيَّة لإسرائيل، ومع انتشار فيديوهات في الوسط الثقافي والاجتماعي الأميركي تسنتكرُ جرائم الإبادة وقتل الأطفال في غزة.

يراهن ادوارد سعيد على دور المجتمع المدني في تغيير مسارات الأحداث، إذ «لا يكفي القول: سوف نحارب وسيلتفت العالم كله الى كفاحنا. إن أجزاءً معينة من العالم لا تستطيع أنْ تسمع ولا يجب أنْ تسمع، خطابنا. إنَّ المجتمع في أعماقه أمرٌ ماديٌ، على الرغم من أنَّه ليس محكوماً بقوى آليَّة عمياء، وعلينا أنْ نوجهَ أنفسنا بجدٍ الى دراسة تلك الجوانب من المجتمع المدني الأميركي التي يمكن أنْ تهتمَّ برسالتنا، بل تلك التي تحتاج بالتأكيد الى إلهامنا بقدر ما نحتاج نحن الى إلهامها، وعلينا أنْ نحللَ وأنْ نميزَ وأنْ نخلقَ جمهورنا المناصر، فحلم الدولة الديمقراطيَّة العلمانيَّة، له أصداءٌ حارة داخل التقليد الأميركي».

مع ذلك فإنَّه لا ينكر أنَّ هذا الاحتمال سيجدُ له مصدات وتعارضات في الممارسة السياسيَّة الامبرياليَّة، لكنه احتمالٌ يجب الرهان عليه، يقول ادوراد سعيد «إنَّ الفلسطينيين يعرفون، عقلانياً، أنَّ الاحتمالات ضدهم – لكنَّ ثقتهم في عدالة قضيتهم وصدقها من جهة أخرى ترسم صورة أكثر إشراقا: إنه - كما قال غرامشي – تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة».