تشهدُ هذه الأيام مزاداً متصاعداً لأمنيات الحرب، تشترك في هذا المزاد أقلامٌ كثيرةٌ، ينطلقُ الكثيرُ منها باسم الحماس الثوري ومواجهة أميركا ودعم إيران، من دون أنْ يُدرك هؤلاء المزايدون الأبعاد المدمّرة للحرب، لو اندلعت، يشتركُ مع هؤلاء في التصعيد وعدم الإدراك معاً، أصواتٌ نسمعها من إيران نفسها!
لهؤلاء جميعاً أنقل هذه الواقعة من دفاتر الراحل هاشمي رفسنجاني (ت: 2017م) حصلت له مباشرة مع السيد الخميني، حيث يقول: "في يوم التاسع من شهر خرداد سنة 1368 فارسي (29 أيار 1989م) عدتُ إلى المنزل في وقت متأخر ليلاً، بعد يوم حافلٍ بالعمل، بدأ بالذهاب إلى مقرّ عملي في مجلس الشورى، تمام الساعة السابعة والربع صباحاً، ثمّ حضرتُ عصراً اجتماعاً للجنة التعديلات الدستورية، قبل أنْ أشارك مساءً باجتماع لمجلس تشخيص مصلحة النظام".
يضيف الرئيس الإيراني الأسبق: "مع أنَّ الوقت كان متأخراً، إلا أنني ذهبتُ إلى مستشفى القلب، حيث كان يرقد الإمام الخميني في مرضه الذي توفي فيه. كان الإمام الخميني يتحدّث بصعوبة بالغة، فقال لي بصوتٍ ضعيف: إنَّ الدواء القاتل الذي تجرّعته في قبول قرار وقف إطلاق النار [يقصد به القرار (598) الذي توقفت بموجبه الحرب العراقية ـ الإيرانية] كان حنظلاً، حتى عبّرت عنه بالسمّ القاتل. أما اليوم وأنا أرى أنَّ البلد لا يعاني من مشكلة الحرب بعد موتي، فقد تحوّلت تلك المرارة عندي إلى حلاوة".
الحرب ليست نزهة، ولنتذكر دائماً أنَّ الحروب تشتعل بيسر، بيد أنها لا تنطفئ إلا بصعوبة، وبعد دمار الإنسان وخراب العمران. لقد أخذتُ هذه الواقعة عامداً، من دفاتر سياسيّ محنّك كهاشمي رفسنجاني، نقلها عن ثائر متمرس كالخميني، من أنه سيترك بلده في رحلة الأبديَّة مطمئناً، وقد تخلص من وطأة الحرب ومرارتها التي دامت ثماني سنوات، حيث توفي السيد الخميني بعد خمسة أيامٍ فقط، من هذا الموقف الذي نقله رفسنجاني.
لقد جاء هذا الموقف في كتاب من جزأين، كان آخر ما صدر عن هاشمي رفسنجاني في حياته، هو بمنزلة السجل لمئات من أبرز أفكار ومواقف وتصريحات ولقاءات رفسنجاني، امتدّ على أكثر من ستمئة صفحة، نُشر قبل أشهر قليلة من وفاته، مذيلاً بتقريظ بخطّ يده، بضمنه مادّة لم تُنشر قبل ذلك قطّ.
ليس هذا وحده، بل هناك موقف للسيد حسن نصر الله، حين استطاع حزب الله أنْ يأخذ جنديين إسرائيليين رهينة، أواخر العام 2006م، اندلعت على اثرها حرب إسرائيلية مدمّرة في لبنان، فما كان من السيد نصر الله إلا أنْ ذكر نصاً، أنه لو كان يعلم أنَّ وراء خطف الجنديين، دماراً كالذي حصل، ما كان ذهب وراء ذلك، وهكذا يفعل أي عاقل ضنين على دم الإنسان، حريص على بلده. ينبغي أنْ تكون الحرب آخر الخيارات، وهي كالميتة لا يقربها الإنسان إلا اضطراراً، ولا يأخذ منها إلا بقدر الضرورة.
مرة أخرى، فقد وجدتُ أنَّ أكثر من ينفخ بطبول الحرب بمنطقتنا ويؤجّج لفتنتها، أُناسٌ أغلبهم يعيش في عواصم الغرب، لكن أغرب ما قرأتُ مقالاً لكاتب عراقي، ذيّله بخاتمة: "لا نامت أعين الجبناء" ولستُ أدري ما الشجاعة في أنْ يتمنى هذا الكاتب وأمثاله، حرباً مدمّرة للمنطقة، لا ينجو العراق من شررها.