طوفان الأقصى وموقف المنصات الرقميَّة

منصة 2023/10/31
...

 مهند حبيب السماوي *


دور مواقع التواصل

 في الصراعات والحروب

هذه التغييرات الجذريَّة، وعلى هذا الصعيد التكنولوجي بالخصوص، لم تستثنِ مساحة أو تستبعد مجالاً من مجالات الحياة من دون التأثير فيه، أو أنْ يكون للرقمنة وتمظهراتها دورٌ فيها إيجابي أم سلبي، دائمي أم مؤقت، كبير أم صغير، واضح أم مستتر، سواء اعترفنا بذلك أم أنكرنا ولم نقر به.

فالأحداث التي أعقبت الهجوم الذي شنته المقاومة الفلسطينيَّة على كيان الاحتلال الإسرائيلي، قد سلطت الضوء مرة أخرى على أحد الموضوعات المهمة والجوهريَّة في العصر الرقمي، وهو دور المنصات الرقميَّة ومواقع التواصل في الصراعات والحروب والأزمات التي تندلعُ في العالم، وما يمكن أنْ تقوم به، الفضاءات الافتراضيَّة، لتخفيف حدة التوتر وحماية الأبرياء ومنع التحريض وتأجيج الاستقطابات السياسيَّة والدينيَّة والمذهبيَّة والقوميَّة.

حيث بعد دقائق من الهجوم، وما أعقبه من تصعيدٍ إسرائيلي همجي، غرقت مواقع التواصل المختلفة بملايين المنشورات والصور ومقاطع الفيديو التي تتعلق بالموضوع، وبسرعة مذهلة فاقت أي حدثٍ آخر في السنوات الأخيرة، ما أدى لإرباك مواقع التواصل وإدخالها في نفق المعضلة “القديمة الجديدة” التي تتعلق بطريقة التعامل مع هذا الكم الهائل من المنشورات، وكيفيَّة مواجهة التدفق الاستثنائي للمعلومات والمواد على هذه المنصات، وتمييز ما هو مناسبٌ ويتسقُ مع معاييرها او منتهك لها، فضلاً عن قدرتها على معالجة المنشورات بطريقة موضوعيَّة ومهنيَّة ليس فيها محاباة تجاه أحد طرفي 

النزاع.

وكما هو متوقع، بدأت شركة ميتا، عبر تطبيقاتها فيسبوك وانستغرام وواتس آب، بأول إجراءاتها التعسفيَّة تجاه المحتوى الداعم للقضيَّة الفلسطينيَّة، من خلال حظر هاشتاك (طوفان الأقصى) تحت ذريعة أنَّ بعض المنشورات التي يتضمنها مخالفة لمعايير المنصة وتتضمن عنفاً من نوعٍ ما، وقد جاء قرارها هذا قبل أي تحركٍ من أي منصة رقميَّة أخرى، في دليلٍ آخر يُضاف لرأينا السابق في أنَّ شركة ميتا ومنصاتها المعروفة، تتعاملُ بطريقةٍ لا تخلو من الانحياز في مثل هذه القضايا.


الاتحاد الأوروبي وحظر حماس

ومن أجل أنْ تُسارع بقيَّة المنصات في حظر المحتوى الفلسطيني والمؤيد له، أو على الأقل تضييق الخناق عليه، بدأ الاتحاد الأوروبي حملة ضد هذا النوع من المنشورات، وقاد الحملة مفوضها للشؤون الرقميَّة تييري بريتون الذي أرسل رسائل خاصة لمدراء ورؤساء منصات فيسبوك وأكس وتيك توك ويوتيوب وبلو سكاي، مارك زوكربيرغ، وايلون ماسك، وشو زي تشو، وسوندار بيتشاي، وجاك دورسي على التوالي، حذرهم فيها من المنشورات المؤيدة لحركة حماس وطالبهم بضرورة الامتثال لقانون الخدمة الرقميَّة الجديد في الاتحاد الأوروبي وإلا سيواجهون بغراماتٍ كبيرة تصل الى 6 % من إيرادات الشركة السنويَّة كما تطرقت لذلك بالتفصيل في مقالي «معركة أوروبا الجديدة ضد المنصات الرقميَّة».

مطالبات الاتحاد الأوروبي للمنصات كانت تتعلق بقضيتين مهمتين، محاربة المحتوى الذي تصفه هذه الدول بـ»الإرهابي» وما يتعلق به من منشورات من جهة، ومواجهة المعلومات الكاذبة والأخبار المضللة التي تنتشر في مثل هكذا أحداثٍ عالميَّة من جهة ثانية، ومن وجهة نظري فإنَّ التركيز كان على مواجهة المحتوى الفلسطيني وسرديته التي تُقدم من خلال المنصات على نحوٍ أكثر من التركيز أو الاهتمام بالأخبار الكاذبة أو على العنف بشكلٍ عام.

ومع تشابه ردود أفعال المنصات تجاه مطالب الاتحاد الأوروبي، إلا أنَّ هنالك بعض المواقف التي ينبغي لنا التعرض لها في هذا السياق، والتي لم ترضخ فوراً للمطالب، فأيلون ماسك، ردَّ، بادئ ذي بدء، على الاتحاد الأوروبي بمنشور، أكد فيه أنَّ سياسة “أكس” هي أنْ يكون كل شيء مفتوحاً وشفافاً، وهو المنهج الذي أعرف بأنَّ الاتحاد الأوروبي يدعمه، ما لاقى صدى إيجابياً عند المساندين للقضيَّة الفلسطينيَّة والمتعاطفين معها الذين أكد الكثير منهم في البداية وجود حريَّة في نشر بعض الأخبار المتعلقة بغزة، لكنْ بعد ساعات من هذا المنشور، تفاجأ المستخدمون وأصيبوا بخيبة أمل كبيرة، بما كتبته المديرة التنفيذيَّة لمنصة أكس، ليندا ياكارينو، إذ أشارت في منشورٍ لها، تضمن رسالة طويلة للاتحاد الأوروبي، الى أنَّ منصة اكس قامت بحذف آلاف المنشورات ومئات الحسابات التابعة لحماس، وهو الموقف الذي يكشف، من وجهة نظري، عن حجم الضغوط التي مارسها الاتحاد الأوروبي ضد منصة أكس والتي دفعت ايلون ماكس إلى التفكير، كما تداولت الأخبار غير الرسميَّة، بإيقاف عمل المنصة في منطقة الاتحاد الأوروبي للتخلص من ضربات السيف الذي يشهره الاتحاد الأوروبي ضد المنصات تحت اسم “قانون الخدمة الرقميَّة”.


موقف منصة تيليغرام

أما الموقف الثاني، الذي يستحق الوقوف عنده والتطرق له، على نحوٍ تفصيلي، فهو موقف مؤسس منصة تيليغرام بافيل دوروف الذي أراه مغايراً ومختلفاً تماماً، ويحمل في طياته موقفاً جديداً يتعلق بالتعامل مع المنشورات التابعة لحركة حماس، إذ أوضح دوروف رأيه في منشور له في قناته على تيليغرام، بتاريخ 13 من شهر تشرين الأول، وهو نفس تاريخ إصدار شركة ميتا بيانهم التفصيلي حول الأحداث، فأشار الى أنَّ منصة تيليغرام تحذف في كل يوم ملايين المنشورات الضارة، لكنَّه أضاف بأنَّ قضيَّة المنشورات المتعلقة بالحروب تكون غير واضحة تماماً.

والملاحظة الأخيرة في هذا التشخيص دقيقة الى حدٍ كبيرٍ، إذ إنَّ المنشورات التي ترتبط أو تنتشر في أوقات الصراعات والحروب لا يمكن التعامل معها على نحوٍ يسيرٍ، ولا تحديد مضمونها ومعناها بصورة مباشرة لا تقبل التأويل والتفسير، ولذا فإنَّ خوارزميات المنصات التقليديَّة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي في فحص المنشورات، ستفشل في تحديد المقصود من المنشور، وتُخفق، بالتالي، في اتخاذ موقفٍ صائبٍ منها.

ويضيف دوروف، في منشوره المهم: «في وقتٍ سابقٍ من هذا الأسبوع، استخدمت حماس منصة تيليغرام لتحذير المدنيين في عسقلان ومطالبتهم بمغادرة المنطقة قبل ضرباتها الصاروخيَّة، فيسأل: هل سيساعد إغلاق قناتهم في إنقاذ الأرواح، أم أنه سيعرض المزيد من الأرواح للخطر؟».

هذا السؤال الذي طرحه دوروف، بذكاءٍ، يهدف لتوضيح، أو تبرير، وجود قنوات المقاومة الفلسطينيَّة في منصته، وهو منطقٌ لا نجده في معايير وقواعد منصات التواصل، إذ إنَّ وجود قناة حركة حماس، على منصته، ربما قد يساعد المدنيين ممن يطلعون على بياناتهم، على تجنب الأذى والضرر، وبذلك تكون هنالك فائدة من وجود هذه القناة على المنصة، لأنَّ عدم وجود القناة يعني عدم تنبيه الناس مما سوف يحدث في المعارك.

ويكرر، في المنشور ذاته، رأيه بأنَّ التعامل مع هذه المنشورات، في فترات الحروب والأزمات، هو قضيَّة معقدة تحتاج لدراسة شاملة وتدقيقٍ عميقٍ يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات بين مواقع التواصل الاجتماعي المتنوعة.

ولا ينسى دوروف، كما هي عادته، أنْ يوجه سهام نقده لمواقع التواصل، فيتحدث عن دورها السلبي في نشر الأخبار الكاذبة، ويرى أنَّ خوارزمياتها تقدم أخباراً ومنشورات للمستخدمين حتى من الصفحات التي لا يتابعونها في حين إنَّ تيليغرام لا يقدم لمستخدميه إلا المعلومات والأخبار من القنوات التي يتابعها، وبذلك لا تسهم منصته في نشر الأكاذيب والمنشورات التضليليَّة.

وبالرغم من أنَّني أعتقد بأنَّ الأكاذيب والتضليل في منصة تيليغرام لا تختلف عن باقي المنصات، وأنَّ استجابة المنصة للطلبات ضعيفة عموماً، ومعدومة أحياناً، إلا أنَّ وجهة نظر دوروف حول قضيَّة وجود قناة حماس في منصته جديرة بالتأمل والنقاش وطرحها مع بقيَّة المنصات التي لا تسمح لهذه المنظمة بالتواجد لديها وتحظر كل منشوراتها سواء كانت منشورات إخباريَّة أو غيرها بعد أنْ صنفتها بأنَّها منظمة خطرة أو إرهابيَّة.


تخبط المنصات وانحيازها

إنَّ الهجوم على إسرائيل، وما أعقبه من ردٍ «جنوني» تخطى حدود المعايير الإنسانيَّة في الحروب، قد خلق فضاءً أعاد للرأي العام مناقشة موضوع تعامل المنصات مع المنشورات التي لجأ إليها الملايين للتعبير عن غضبهم مما يحدث، أو البحث عن معلوماتٍ عمَّا يجري، ما تسبب في تخبط العديد من المنصات وعجزها في إيجاد طريقة مثلى للتعامل معها، فانحازت لطرفٍ معينٍ في الصراع على حساب الآخر حيناً، وحذفت كل المنشورات المتعلقة بالحدث بدون تمحيصٍ لفحواها حيناً آخر، في مؤشرٍ جديدٍ ودلالة، نكرر على معناها دائماً، وهي عدم قدرة مواقع التواصل على التعامل بحياديَّة وبدقة مع المنشورات التي توجد على منصاتها، بصورة عامَّة، والمنشورات المتعلقة بالحروب والصراعات بصورة خاصة.

وبالرغم من كل التضييق ورسائل التهديد والوعيد التي أطلقها الاتحاد الأوروبي ضد المنصات من جهة ومعايير المنصات وقواعدها التي ترسم خرائطها وتسيطر عليها شركة ميتا من جهة ثانية، فإنَّ سرديَّة ما يتعرض له الفلسطينيون في غزة لم يتمّ خنقها كلياً، فما زالت تجد لها مكاناً في الفضاء الافتراضي، في منصة أكس بحدودٍ معينة، وتيليغرام على نحوٍ أكبر، وبحريَّة أوسع، تذكرنا، في نهاية المطاف، بوجود نظامٍ عالميٍ رقمي جديد، تسيطر عليه شركات تقنيَّة كبرى تتحكم بالرأي، وتسيطر على التفكير، وتكبت المشاعر، وتُجهض صرخات المظلومين من شعوب الأرض المسحوقة.


* باحث دكتوراه فلسفة