أرض اللبن والعسل

منصة 2023/11/02
...

د. منتصر صباح آل شمخي الحسناوي

“جدّي، أين ذهبت أمي وأبي؟” سأل الطفل الصغير وهو متشبث بقميص ممزق لرجلٍ عجوز.  نظر العجوز بشوق إلى الأفق: “لقد ذهبا للبحث عن اللبن والعسل يا صغيري”.

“لكن جدي، أرضنا لم تكن تحتوي على اللبن والعسل منذ مئات السنين”.

تدحرجت دمعة على خدي العجوز لكنه مسحها بسرعة وقال :” أعلم يا صغيري، إننا نأمل ونصلي أن يعودا بهما حتى نشعر بالحياة مرة أخرى”.

“أرض اللبن والعسل”: مصطلح لغوي يُستخدم للإشارة إلى خصوبة الأرض ووفرة نِعمها، وكان يُستخدم أيضاً للإشارة إلى بركات الجنة وأرض الموعد. 

في الوقت الحالي يتم تداول المصطلح على نطاق واسع للتعبير عن الأرض المثلى، كمثال الولايات المتحدة الأميركية بالنسبة للمهاجرين المكسيكيين، وأستراليا وبلدان أخرى.

استعمل المصطلح أيضاً كعنوان للروايات والأفلام والكتب وحتى عدد من الأغاني، لكنه كان دائماً مرتبطاً تاريخياً بمنطقة كنعان، التي أُشير إليها في التوراة باسم “أرض اللبن والعسل”:

“فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْمِصْرِيِّينَ، وَأُصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْضِ إلى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ، إلى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا، إلى مَكَانِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْفِرِزَّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ. “ (خر 3: 8)

“وَلِكَيْ تُطِيلُوا الأَيَّامَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي أَقْسَمَ الرَّبُّ لآبَائِكُمْ أَنْ يُعْطِيَهَا لَهُمْ وَلِنَسْلِهِمْ، أَرْضٌ تَفِيضُ لَبَناً وَعَسَلًا.” (تث 11: 9).

“  وَرَفَعْتُ أَيْضاً يَدِي لَهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ بِأَنِّي لاَ آتِي بِهِمْ إلى الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا تَفِيضُ لَبَناً وَعَسَلاً، هِيَ فَخْرُ كُلِّ الأَرَاضِي”. (حز 20: 15).

بشكلٍ عام يظهر المصطلح “عسل” 55 مرة في الكتاب المقدس، 16 منها كجزء من صورة إسرائيل باعتبارها “أرض اللبن والعسل”، يُعتقد عموماً أن المصطلح يشير إلى العسل المنتج من الفواكه مثل التمور والتين، أما عسل النحل ذُكر بشكلٍ صريح مرتين فقط ، وكلاهما يتعلق بالنحل البري، الأولى هي كيف استخرج شمشون عسلاً من داخل جثة الأسد في وادي سوريق 

(القضاة 14: 8-9). 

أما الثانية هي قصة يوناثان، ابن الملك شاول، الذي غمس يده في خلية عسل خلال معركة مخمش (صموئيل الأول 14:27) ، رغم ذلك، لم يذكر الكتاب المقدس شيئاً عن تربية النحل في تلك الفترة.

في عام 2007، اكتشفت 30 خلية نحل قديمة مصنوعة من الطين في جنوب حيفا تعود إلى العصور القديمة تقديراً بعام 900 قبل الميلاد ، مما يُعتقد أنه يشير إلى صناعة العسل في تلك الفترة.

أرض كنعان وبالذات فلسطين أرض غير مروية ولم تكن معروفة بالزراعة، تغلب عليها النباتات الطبيعية وفقاً لتقلبات الأمطار السنوية غير المنتظمة، مما يسمح بوجود اقتصاد رفيع فقط، على الرغم من أن “أرضاً تجري لبناً وعسلاً” تعد أفضل بكثير من واقعها آنذاك فهي  ضعيفة بالمقارنة مع المناطق حولها من بلاد الرافدين والشام وحتى في مصر التي خرج منها بنو إسرائيل.

هنا ينشأ السؤال: هل أرض كنعان هي أرض اللبن والعسل؟

أم أن المصطلح مجازي ويمكن أن يكون صحيحاً بالنسبة لأرض أخرى تُعرف بهذا الاسم، أو أي أرض خصبة بخيرات الأرض؟

خلال زيارة كاتب هذه الحروف للمتحف الوطني العراقي في أبريل 2022، لفتت انتباهي لوحة فسيفسائية بمقاس تقريبي 2 * 3 متر تعود إلى الحضارة الآشورية عثر عليها في قلعة شلمنصر الثالث في نمرود، تمثل الملك شلمنصر الثالث (858-824 قبل الميلاد) بصورتين متقابلتين في الجزء العلوي، رمز الإله آشور بشكل إنسان ذي جناح وذيل طائر محاط بقرص شمسي، وفوقه صورة شجرة مقدسة بثور تقفز على كل جانب، ومحاطة بزهور وصور للماعز.

وكوني من المختصين بدراسة الجغرافية الزراعية ولاسيما النحل، لاحظت وجود رسومات للنحل في اللوحة، ولكن لم تتم الإشارة إليها على لوحة الشرح، وعندما سألت عن معنى هذه الرسومات، وجدت انني أول من ميز وجود رسومات النحل على الجدارية، إذ لم يلاحظ أي من الأثريين وجودها.

بعد التدقيق فيها ، وجد أنها تحتوي على إحدى عشرة نحلة مرسومة تتابعياً مع الماعز، كما لو كانوا يقولون:  “هذه هي أرض اللبن والعسل”.

وهنا يتبادر سؤال هل بلاد آشور هي أرض اللبن والعسل؟

 قد يكون ذلك صحيحاً مع الأخذ بنظر الاعتبار توسع الإمبراطورية الآشورية آنذاك وصولاً إلى البحر المتوسط، فضلاً عن أن حضارات بلاد الرافدين عرفت عموماً بخصوبة أرضها ووفرة مياهها وتربية الحيوانات الداجنة بما في ذلك الماعز، وكانت تعرف أيضاً العسل واستخداماته في جميع حضاراتها، ولكن الحضارة الآشورية تميزت عن غيرها من خلال معرفتها بأساليب التربية الاحترافية للنحل والانتقال به عبر مسافات طويلة.

الخلاصة أن أرض اللبن والعسل هو وصف لا يتعلق بأرض معينة بقدر ما هو دلالة على وفرة المراعي والأراضي الخصبة التي يمكن أن يمارس فيها الإنسان الزراعة وتربية الحيوانات، وإلا فإن هناك الكثير من الأراضي في العالم أكثر خصوبة وعطاء مقارنة بالمناطق المذكورة في التوراة ويصح أن يطلق عليها أرض اللبن والعسل .