د. نصير جابر
في سنة بعيدة جدا، وفي الدرس الأخير روت لنا معلمة الحياتيَّة (مادة دراسيَّة تشبه العلوم ستلغى في ما بعد) حكاية غريبة ظللنا فاغري الأفواه ونحن نستمع إليها بشغف، قالت وهي تؤكد كل حرف تلفظه: (مرّة سقطت طائرة فوق جبل مرتفع ومنعزل وموحش، قـُتِل أغلب ركابها ونجا القليل منهم بجروح وخدوش وكدمات، ولكنهم وسط الصقيع الكارثي والجوع وقلة المؤن، أكلوا لحم من مات من زملائهم، وحينما عطشوا شربوا بولهم...)
ودقّ الجرس فخرجت المعلّمة مسرعة، كان النهر الذي نشرب منه يبعد عن المدرسة أقل من ثلاثين مترا، نظرت للماء العذب الجاري وأنا أعبر القنطرة الخشبية، وشعرت لأوّل مرّة بالخوف من الماء، وحينما وصلت إلى (الحبّ الفخاري) الذي تسنده نخلة زهدية عالية في باب الحوش، رفعت الطاسة وشعرت بقرف شديد وأنا أقرّبها لفمي، فقد يكون أحدهم قد «بال» في مجرى النهر هذا الصباح؟.
بعد تلك الحكاية بسنوات طويلة، وفي حادثة أولى صادمة رأيت انابيب الصرف الصّحي «مجاري» إحدى المنشآت تصبّ في نهر الفرات، ثم تكاثفت وتوالت تلك الصدمات، بل الكوارث عندما علمت وبشكل قاطع لا مجال للشك فيه أن الأنهر مجرّد مكبّات لأنواع النفايات المسرطنة والمدمرة، وإنّها تتلوث ساعة بعد ساعة بالمئات من الأطنان السامة التي تدمر الصحة والتربة والطير والشجر، فضلا عن رمي الأزبال والمواد البلاستيكية، وكل ما يخطر بالبال وما لا يخطر، بل إنّ بعضهم يتخلص من جثث الحيوانات النافقة برميها في
الماء!
الإساءة للماء جريمة لا تغتفر، ولا يمكن أن نسامح أو نتساهل مع من يقوم بها عامداً أو ساهياً، فلا مسوّغ لها تحت أي ظرف كان، ويجب أن يقع تحت طائلة القانون الشديد والعقوبات الصارمة التي لا جدال فيها، ولا تهاون مع كلّ من يرتكبها، فالفعل هنا تدميري، ذو نتائج كارثية، لا يستهدف جهة واحدة، بل يطال الحياة برمتها.
كيف لمن يخاف الله ويحرص على اتباع تعاليم دينه مثلا، أن يرمي انابيب الصرف الصّحي «مجاري» بيته في نهر تشرب الناس منه، هذا «منافق» لا صلاة ولادين عنده، وكيف لمن يدعي النظافة، ويخرج متعطّرا متأنقا أن يرمي قنية ماء فارغة في نهر جار، هذه إساءة يستحق عليها العقوبة والتغريم، وكيف لمن يتكلم عن الأخلاق الرفيعة أن يسمح برمي حتى ولو عقب سيجارة في
نهر؟
الماء هو الحياة وهو النعمة الأكبر، آلاف التلسكوبات تبحث الآن في مديات الكون الشاسعة عنه، لأنّه دليل الحياة الأول، فما هي ثقافتنا التي نلجأ إليها لنواجه هذه المحنة التي تكبر لحظة بعد أخرى؟ كيف نثقف الأجيال الناشئة بثقافة احترام الماء وتقديسه؟ ألم يظن المخيال الشعبي يوما ما أنّ الأنهر تنبع من الجنان البعيدة الغامضة، ألم تنسج الحكايات والأساطير حول الفرات ودجلة وسحرهما وعذوبتهما؟
أزمة الماء خطرة وحقيقية جدا ومركبّة ولها أوجه عديدة، بعضها عالمي والآخر محليّ، الجفاف قادم لامحالة، فماذا نفعل؟ يجب أن تتغير طرق الزراعة ونوعيات المحاصيل، وتتغير ثقافة استهلاك الماء وطرق تخزينه، وقبل كل شيء يجب أن نتعلم كيف نحترم الماء بوصفه سببا لوجودنا على هذه الأرض.
وما أبلغ تلك العبارات التي وردت في (كتاب الموتى الفرعوني) إذ يقسم الإنسان وهو في طريقه للحياة الأبدية إنّه «لم يلوث مياه النيل» لكي يسمح له بالمرور نحو فراديس العالم الأزلي.