عبد الغفار العطوي
ما هو الواقع الافتراضي، وما هو الفرق بينه وبين الواقع الحقيقي؟.. ظهر الواقع الافتراضي منذ زمن قصير نسبياً، بوصفه جهازاً خداعاً مثل - الماتراكس وريدي فلاير وان - ويبدو الآن عبارة عن تقنيَّة واقعيَّة تنتشر تدريجياً مع تطبيقات متزايدة شاملة الألعاب والترفيه، ومناحي أخرى أبعد من هذه التقنيات لتستخدم فيها كالطب والقطاع العسكري.
ولعلَّ الواقع الافتراضي قد بدأت جذور الرغبة في إنشائه وتجربته إلى أفلام كياتو ريفل، لكنَّ شيوعه قد غطى على الواقع الحقيقي الذي نعيشه ونشعر بجوانبه الماديَّة المنظورة، وربما نسلت فكرة الواقع الافتراضي من الحقيقي عبر الاستغراق في النزوع نحو التخيل والانسلاخ من إكراهات أوضاع واقعنا الرتيب، وتصدى جان بودليار في مؤلفاته المختلفة في مجمل اهتمامه المعروف بما بعد الحداثة بتحليل التغيرات التي شهدها المجتمع الصناعي، في شكله الرأسمالي الجديد، وانشغل بتشكيل أولاً في تطوير نظريَّة اجتماعيَّة للمجتمع الجماهيري مرتكزة على نقد ماركس للاقتصاد السياسي وسوسير للنظم الإشاريَّة، وقام كذلك وفق رسالة الدكتوراه التي أحرزها بتطوير قضيته الأساسيَّة التي تتمثل في أنَّ الاستهلاك قد أصبح القاعدة الأساسيَّة للنظام الاجتماعي، وواصل عمله المتعلق بدور الإعلام في صياغة الواقع وفرض الحقائق، أو بالأحرى الصور المحاكية للحقائق، وربما صار العالم أكثر تقبلآً في التحول إلى الافتراضيَّة المحاكية للواقع.
من جهته عرض آلان دونو في نظام التفاهة ما ملخصه فقد وقف عند الثقافة من حيث أولى اهتماماً كبيراً لموضوعاتها، ويلفت أنظارنا إلى كونها صارت أداة مهمَّة في توطيد أركان نظام التفاهة، كما يحيط بنا اليوم، لنرى أنَّ كاتب مقال (عزيزي الفيسبوك) آدم بريفل الذي يتعامل مع "الفيسبوك" كأنثى أو فتاة كما في الغرب، وهو يدفع بخطاب إعلامه لها، يقرُّ بأنَّ وسائل التواصل الاجتماعي (هنا التأكيد على الفيسبوك) وفق تعبير مارشال ماكلوهان في وصفه "للفيسبوك" بوصفه نصاً الكترونياً، ما هو إلا الوسيط في رسالة، لهذا الكاتب بريفل يوجه خطابه "للفيسبوك" بروح الغزل قائلاً: قبل وصولك كان لدينا شيء يدعى (الإعلام) – إذاعة وتلفزيون وصحف، ولكنْ بعد حينٍ وفي وادي كاليفورنيا الدافئ غزل الأنترنت أول خيوط الشبكة العنكبوتيَّة، وهي تنتشر في سائر القارة منتقلة إلى أوروبا وآسيا، زحفت الشبكة العنكبوتيَّة عبر الجدران، والتصقت بالشاشات – بالطبع لم يزح الجديد القديم بهذه البساطة – أنت لست قناة لنقل المعلومات، بل بيئة أو فضاء الكتروني حيث تعيش المعلومات ومتاحة، فضلاً عن ذلك من الصعب تمييزك عن المعلومات إلخ لنفهم من كلمات بريفل أنَّ موت الواقعي (وهو صدى لمقولة موت الاجتماعي بالضرورة) التي أطلق شعارها بوديليار قد أثارت قلق المعنيين بالسسيولوجيا، وطرحت تساؤلات عدة، في أبرزها هل واقع المجتمع المعاصر الحالي، الذي حلت فيه العلاقات الافتراضيَّة محل العلاقات الاجتماعيَّة، والذي هو قد عملت فيه الصور بمختلف أشكالها على مضمون الحقيقة الاجتماعيَّة هو واقعٌ يفتقر لمتطلب الاجتماعي؟
إنَّ مهمة بوديليار قد حولت الواقع نحو نمطٍ من المحاكاة في الصور الافتراضيَّة للواقع، ليس في علم الاجتماع (وهنا ألمح إلى الجانب الماركسي في اتجاه بوديليار) بل تمادى نحو التواصل الاجتماعي، وتسببت بعد زمن قصير في بروز نظام اجتماعي بديل للنظام الاجتماعي الواقعي تحت طائلة (الشبكات الاجتماعيَّة) التي قال عنها دونو الشبكات الاجتماعيَّة ومواقع التواصل (مثل تويتر وفيسبوك وانستاغرام) هي مجرد مواقع للقاء الافتراضي وتبادل الآراء لا أكثر، فيها يتكون عقلٌ جمعيٌّ من خلال المنشورات المتتابعة، لكنه نجح في سرعة مذهلة ما كانت تعجز عنه أجيال المجتمعات لو أرادت أنْ تعملَ على مسارٍ موضوعي محددٍ أنْ تفعله، وربما فلسفة دونو قد هاجمت تلك الشبكات من معيار التفاهة لكنَّ الواقع الذي نجده يتشظى حولنا دوماً هو الذي يقلقنا، أي التحول إلى مجرد شيء افتراضي، أو ما يسميه الكاتب بريفل بحسن المعاشرة، وهو مصطلحٌ يرتبطُ ولا غرو بالصداقة (ثمة علاقة بين الفيسبوك وبين الشخص المستخدم تمثلها الصداقة).
ويضيف بريفل عن ذلك، ذاك النموذج المثالي للعلاقة الشخصيَّة المختارة بحريَّة، ويضرب الكاتب مثلاً في نبذة عن مغزى العلاقة التي تبين حسن المعاشرة "االفيسبوك" بالقسيس البورتريكي إيفان ايليتش توفي عام 2002، أي قبل شيوع "الفيسبوك" عالمياً (2004) الذي أثار نقده الراديكالي للسياسات المروجة للتحديث أو التنميَّة الاقتصاديَّة والتكنولوجيَّة الكنيسة الكاثوليكيَّة التي عينته للدفاع عن رعاياها، لكنَّ إصرار ايليتش على سلوك الطريق المعاكس جعله يشعر بالحريَّة التي أدرك أنَّها مفقودة ولا تمتلكها غير الثقافات غير المنظورة التي أطلق عليها النسبيَّة الشخصيَّة أو التلاقي المتلائم، كما رفض يسوع القوة باسم الحريَّة يعدُّها خسارة بسبب ما يحتاجه المرء لتكوين صداقات افتراضيَّة من دون حاجتنا لتبريرها، لأنَّها لا تحتكم للواقع الحقيقي، وبرأي بريفل إنَّ النسبيَّة الشخصيَّة (هي علاقة شخصٍ بآخر هو الخير من النوع البشري) حسن المعاشرة هي "الفيسبوك" الذي يراهن على متانة الصداقات في الواقع الافتراضي، لكنَّه من جانبٍ آخر من الصداقات لا تصلح في الواقع الحقيقي، لكنَّ الواقع الافتراضي يقبلها بحكم كونها الصور المحاكية للواقع التخيلي، لها علاقة بنظام التفاهة ما يجعل من كثيرٍ من تافهي مشاهير "السوشيال ميديا والفاشنيستات" يظهرون لنا بمظهر النجاح.
هنا الكارثة! كيف لنا أنْ نبرر خطأ مقولة (موت الاجتماعي) ونقوم بتأييد أحدث الدراسات التي تناولت الجدل حول الاجتماعي في عالم ما بعد الحداثة، كدراسة مايكل شيلمبر: الاجتماعي والكونيَّة وما بعدها، لأنَّ القبول بالمصير المحتم للاجتماعي هو الذي قاد إلى تزييف الواقع، والزعم بأنَّ الواقع الافتراضي يستوعب كل شيء، وفي مقدمته الموضوعات الشخصيَّة (الصداقات الافتراضيَّة) التي أصبح "الفيسبوك" يقصدها في الإعلام الافتراضي بعد أنْ مجدها الإعلام الجماهيري التقليدي الذي روج له بوديليار في مؤلفاته تحت تأثير الفكر الماركسي، يقول بريفل: عندما يتحدث إيليتش عن (حسن المعاشرة) فهو يقصد العلاقة المستقلة والإبداعيَّة وسط الأشخاص، والمراد منها الصداقات بكل تأكيد التي قضت على متاهة الإعلام الجماهيري، وجعلت من إنتاج علاقات جادة وناضجة أشبه بثرثرة في أوج الحلم.