تلاشي فكرة الوطن الأم

منصة 2023/11/08
...

 رنا صباح خليل 

يطرحُ ميلان كونديرا في روايته «الجهل» التي قام بترجمتها عام 2000 عن دار الحصاد المترجم رفعت عطفة، مفهومَ الوطن بوصفه سيرورة أكثر منه مكاناً من خلال تفسيره للشعور بالاغتراب بصرف النظر عن النظريات التي تختلف في تقديمها لهذه الموضوعة سلباً أو إيجاباً، إذ إن بعض المنظرين يرون فيه أنه يسببُ قلقاً واضطراباً مستمرين وشعوراً مزمناً بعدم الارتياح، ويرى فيه آخرون أن له بعض النواحي الإيجابيَّة عندما يمسُّ ذوات المهاجرين ويخلق لهم فضاء للحريَّة والتحول.


يناقشُ كونديرا ضياع الأوطان وما يربطنا بها والذاكرة، بعد أنْ يصحو المغترب فيجد نفسه أمام هويَّة ملطخة ببقايا لغة وألسنة تتلعثم بلكنتها ونصيبٍ ضئيلٍ من الثقافة ومقدرة معدومة على التعايش من خلال شخصيتين في روايته وهما رجل وامرأة اسمهما (ايرينا وجوزيف) كانا في منتصف العمر وهما من التشيك، هاجرا إلى فرنسا لمدة عقدين من الزمن، وبعد انهيار النظام الشيوعي الستاليني في براغ تجيء لحظة المواجهة الكبرى لأسئلة الآخر عن العودة إلى الوطن والتخلص من حنين الغربة والمهجر وهي لحظة إعادة تعريف لكل شيء من جديد، ولحظة انكشاف أمام الهشاشة الأصليَّة للإنسان، ذلك أنَّ كونديرا يتعامل مع الجانب النفسي رغبة في الغوص في النفس الإنسانيَّة لاكتشاف مكوناتها مع الاهتمام بالتعمق في التاريخ من خلال ذكره لتواريخ معينة بأرقام السنين وحيثيات مجيء الفكر الشيوعي على التيشيك وتواريخ أخرى وثقت نهايته وجاءت بالرأسماليَّة، مع محاولة فرش إسقاطاته على الحاضر كونه يدخل في نسيج النص من خلال حركة السرد الحكائيَّة وبذلك خلق عوالم خياليَّة أكسبها أبعاداً واقعيَّة ضمن مكونات المكان فقدم بذلك رواية حياة اجتماعيَّة في بيئتين استطاع أنْ يضمنهما روايته بصورة منتظمة التشكيل، تلفها وحدة عضويَّة بكل تناقضاتها المتصارعة التي يطرحها باستنطاق شخصيتيه وهما يتذكران الماضي الذي لم يكونا قادرين على نسيانه أو غضّ الطرف عن إلحاحه، ذلك أنَّ الترابط بين الذاكرة والنسيان يحملنا على الالتفات إلى صناعة الكراهيَّة ومن ثم إنتاج خطاب الكراهيَّة باستثمار مساهمته في تشكيل ثقافة المجتمع، تلك الثقافة التي سكنت البنى اللغويَّة وكان لها تأثيرها في زعزعة علاقات الشخصيات فما نراه قد حدث مع ايرينا عند لقائها بصديقات لها في بلدها الأم بعد عودتها إليه يثبت أنه لم يعد لها موطئ قدم في ذلك البلد ولا في قلوب المقربين إليها فيه بعد أنْ استطاعت أنْ تتركهم عشرين عاماً فأصبحوا يلومونها ويعقدون المقارنة والمفاضلة معها ما بين قيمة البقاء وتحمل المعاناة التي تكبلوا بها وبين الهروب واختيار موطنٍ آخر وهو ما قامت به هي، الأمر الذي دعاها للانتباه إلى تغير أسلوب حياتهم وألفاظهم واهتماماتهم، حتى علاقتها بأمها تلك العلاقة المشوهة التي أدت نهايتها إلى أنْ تقيمَ الأم علاقة جنسيَّة مع زوج ابنتها متخطية كل اعتبارات الأمومة والقيم السويَّة، ونتج عن ذلك وعيٌ لدى إيرينا بأنَّ هناك معركة أخلاقيَّة يجب عليها أنْ تخوضها في حال قررت البقاء في بلدها براغ، وبعد أنْ شعرت أيضاً أنَّ براثن الفكر الشيوعي لا زالت قائمة ولم تغادر الفكر والشارع والبيت.

وقد حرص كونديرا على ترسيخ خطاب الكراهيَّة ذلك الذي ذكرته بتحويله الى أفعالٍ وأشكالٍ في السلوك، ذلك أنَّ اللغة تصوغ حياة الإنسان وأفكاره وتؤثر فيها وتحدد علاقاته مع غيره على مستوى الأفراد والجماعات والدول والثقافات في حالات التفاهم والتكامل والصراع وغيرها وهو ما حدث مع جوزيف شخصيَّة البطل الثانية في الرواية عندما رجع إلى بيت الأسرة القديم ليجد أخاه وزوجته وهما يصادران أي حقٍ له معهما حتى تنصلهما من طلبه الوحيد بأنْ يحفظا لوحة له كان يعتز بها وكانت معلقة على أحد جدران البيت، لا سيما بحثه عن أصدقائه الذي لم يثمر شيئاً يريحه.

ولا شك أنَّ كونديرا أجاد صناعة هذا العالم على مقاس المعرفة بسلوكيات البشر التي تؤول إلى قتل نوازع الحب لوطنهما التشيك عن سابق قصد، خاصة أنَّ جوزيف لم يكن مضطهداً سياسياً عندما هاجر إلى فرنسا وإنَّما قرر ذلك بعد أنْ ماتت زوجته وأراد أنْ يبدأ حياة جديدة في مكانٍ آخر؛ أي أنَّ فعل الكراهيَّة لم تكن له دعائم تسنده في الماضي بل تولدت لديه بعد عودته إلى براغ.

إنَّ مجتمع ما بعد التغيير في التيشيك عانى من ثقافته هجينة، فبعد أنْ رحلت عنه ارينا وهي تقاسي صرامته وضغوطات الحياة المحافظة فيه أصبحت ترى فيه انفتاحاً ومغايرة إيديولوجيَّة خلقت فيها ذاتاً منقسمة ترى بعينين وتتكلم بلسانين، لسان حبها للمكان لارتباطه بذكريات الطفولة والصبا، ولسان ينطق برغبتها العيش في باريس بعد أنْ قضت فيها عشرين عاماً، وهذه الذات المنشطرة لم تولد انشطاراً على المستوى الاقتصادي والثقافي فحسب بل على المستوى الوجودي، ذلك أنَّ عالم ما بعد التغيير غالباً ما يضع حداً للإرث الحضاري عند الشعوب لينتج عنه عالم متمازج هو خليطٌ لا يمكن إغلاق الأبواب فيه ولا حماية ما يسمى فيه بالأصالة والهويَّة، خاصة بعدما شعرت ايرينا بالشتات وهي تتذكر هجرتها من دون وداعٍ يليق بها وبأحبتها وإحساسها بأنها بلا وطن الأمر الذي جعلها تعاني خلال العشرين سنه في باريس على أنها في ضياعٍ وألمٍ مستمرين هي ومن كان معها من المهاجرين الذين كانوا يتقاسمون مشاعر الاغتراب حتى في تشابه أحلامهم ورؤاهم، وهذه المعايير يحددها ويليام سفران في تحديده لمفهوم الشتات في كتابه (الشتات في المجتمعات الحديثة: أساطير الأرض الأم والعودة)، إذ يشير إلى ست خصائص تحدد الملامح المشتركة في المجتمعات الشتاتيَّة، وهي: تزحزحها من المركز إلى الحواف، وإنشائها ذاكرة جماعيَّة، وشعورها باللا انتماء أو بالأحرى شعورها بأنها غير مرغوبٍ فيها لدى البلد المضيف، رغبتها الجامحة في العودة إلى الأرض الأم المثاليَّة، واعتقادها بأنَّ العودة إلى الأرض الأم سيحقق لها السلام والأمن والرفاهية، وأخيراً علاقتها المتواصلة مع الوطن الأصلي وسكانه (1) . 

إنَّ حجم الخذلان الذي لاقاه كلٌ من ايرينا وجوزيف في بلدهما الأم جعلهما يشرعان هما الاثنان بعد الحديث عن براغ التي تغيرت كثيراً في ممارسة الجنس من دون مقدمات رومانسيَّة، في فحش وانتهاك واتفاق كليّ بينهما، مستثارين على نحوٍ فجٍ ومذهل، يصفه كونديرا بـ «تفاهم كلي على تفجير الفحش! آه، حياتهما كم كانت يائسة! كل الرذائل الممنوعة وكل الخيانات غير المتحققة، كل هذا، يريدان أنْ يعيشاه بنهم؛ اتفاقهما كلي، بالنسبة إلى كليهما كان هذا مروراً متسارعاً للحياة: الجرأة التي يصل إليها العشاق بعد لقاءات عديدة، إنْ لم يكن بعد سنوات عديدة، ينجزونها على عجل، أحدهما يثير الآخر، كما لو أنهما يريدان أنْ يكثفا في هذه الأمسيَّة كل ما فاتهما وما سيفوتهما» إذ لا أمل في لقاء آخر، ورغم كل هذا الحراك العاطفي المحتدم حافظ كل منهما بذاته غريبة عن الآخر وعن المدينة، وهما يستمتعان بحياة وتجارب بلا ذكريات يحددها قرارهما في تلك اللحظة ثم يتمددان بجسدين منهكين وقد شعرا أنَّ علاقة كلٍّ منهما بمدينة براغ قد انتهت إلى الأبد، شعرا أنهما اختزلا في ليلتهم المجنونة تلك كل السنين التي لم يقضياها داخل براغ، والآن حياتهم في باريس ما زالت تنتظرهما ليخطوا فيها منفردين في تجارب جديدة وذكريات جديدة ولكن ليس مع بعض وهذا ما يفسر سفر جوزيف إلى باريس وتركه لارينا وهي نائمة في الفندق من دون أنْ يوقظها ويودعها، وكأنَّ الواحد منهما كان يرى في الآخر جزءاً من متعلقات الماضي بموطنه الذي أصبح في عداد النسيان، الأمر الذي يثبت تلاشي الوطن الأم حتى على مستوى الجنس والعاطفة، وهذه الرؤية اعتنى بتقديمها كونديرا على أنها ثمرة السيرورة في استيعاب الشتات بوصفه قيمة إيجابيَّة ولم يعد له قيم سلبيَّة بحسب طروحاته فقد أراد فيه أنْ يعطي وجهة نظر متحررة للاغتراب والانخلاع وهي ردة فعل للهويات المركبة الأصيلة والمستحدثة التي توصل صاحبها إلى إدراك أنه بلا وطنٍ ينتمي إليه سوى الوطن الذي وجد فيه الراحة والانسجام وإنْ كان بديلاً عن الوطن الأم. 

________________________    

الهوامش : 

(1) ينظر: الوطن في الرواية الأميركيَّة العربيَّة المعاصرة رواية (خارطة وطن) لرندة جرار أنموذجاً، اسرا اوزتراهان، ترجمة: د. مديحة عتيق، مجلة التواصل الادبي، العدد الحادي عشر 2018، ص263.