من الرفعة الاخلاقية للفنانة الراحلة (معالي زايد) أن دورها التمثيلي في ثلاثية الاديب الراحل نجيب محفوظ، يقتضي ان تخاطب الفنان الراحل محمود مرسي (من أعظم فناني مصر شأناً ومنزلة) ببضع عبارات فيها شيء من الغلظة وعدم الاحترام، غير أنها لثلاث مرات تتلكأ ولا يطاوعها لسانها تقديرا لهذا العملاق والاب الروحي، ويعاد تصوير اللقطة.. وقد حفّزني هذا الموقف النبيل الى متابعة ما يمكن متابعته من هذه المواقف ورصدها، لأكتشف في المحصلة، ان الفنان الحقيقي والكبير والاصيل هو ثروة اخلاقية في السلوك والرأي والموقف، خاصة في علاقته مع الفنانين الآخرين ونظرته اليهم، وإن القلة القليلة، او النادرة التي لا تحسن غير الانتقاص من زملائها تعاني بطبيعة تكوينتها من عقدة نفسية تحكم شخصيتها وتدفعها الى خارج الدائرة النبيلة للفن...
على أن اكتشافي الأهم، هو أنّ السلوك الراقي ليس حصراً على الاشقاء المصريين، فالأصلاء من الفنانين العراقيين والكبار والحقيقيون يتحلّون بالصفات ذاتها.. أذكر ان إحدى الفضائيات العراقية وهي تحتفي بالفنان الكبير قاسم محمد (رحمه الله) اجرت (استطلاع رأي) لمجموعة كبيرة من الفنانين العراقيين (رحم الله احياءهم وامواتهم)، كانت اشبه بالشهادات الشخصية التي رسمت بمجملها صورة الكبير قاسم محمد، ويحضرني فيمن حضر من اولئك الشهود، ناهدة الرماح وغزوة الخالدي وسليمة خضير ويوسف العاني ومحمد شكري جميل وفخري العقيدي وعزيز خيون وبهجت الجبوري وكريم عواد ومحمود ابو العباس... وقد تميزت تلك الشهادات بلا استثناء ببعدها عن المجاملة واستنادها الى استشهادات ووقائع.. وربما اجمل من ذلك كله، ان احداً منهم على جلالة منزلتهم وتاريخهم، لم يقدم نفسه او يتحدث عن دوره (اولا) ثم يأتي قاسم محمد ثانياً، وزاد هذا الكرنفال الاخلاقي رونقاً، ان المحتفى به حين تحدث عن تجربته واستحضر الرموز الفنية التي عمل معها.. كان يفعل الشيء نفسه.. أعني يقدمهم على نفسه... حصل مرة في واحدة من زياراتي الكثيرة لصديقي الفنان الراحل يوسف العاني، ان تحدثت عن فنان عراقي بطريقة فيها تقليل من شأنه لعدم قناعتي به، وفوجئت بانفعاله وتأنيبي بعنف لانني اجهل المعايير النقدية التي يجب اعتمادها في اي حكم، ثم اسهب في المواصفات الفنية الراقية لذلك الفنان حتى حبّبه الى روحي، وقد تلمست لاحقاً مثل هذا الموقف لدى جميع الفنانين الذين تربطني بهم صداقة او جمعنا حوار صحفي، ليس ابتداءً بفاضل خليل ومقداد عبد الرضا وعبد الستار البصري وميمون الخالدي، وليس انتهاء بفوزية حسن وخليل الرفاعي وحمودي الحارثي، انهم جميعاً ينظرون الى تجربة الاخر بعين التقدير والاحترام، فكانوا نماذج تربوية صالحة للاقتداء على المستوى الجماهيري. سمعت قاسم محمد يقول (المسرح أولاً والحياة ثانياً)، فاذا كان المسرح يبني ناسه بهذا السمو، فعلى عدد كبير من السياسيين، إما ان يتخلوا عن مقاعدهم وامتيازاتهم لرجالات المسرح، وهذا هو المستحيل بعينه، او ان يستحضروا صورة العلاقات المسرحية المشرقة، ويكفوا عن تبادل الانتقاصات والتهم فيما بينهم، بسبب احياناً، ومن دون سبب أغلب الاحيان...