غادرت عالمنا، مطلع رمضان الجاري، الفنانة المصرية محسنة توفيق عن عمر ناهز الـ(80) عاماً، وهو رحيل قد يبدو عابراً للأجيال الجديدة، لكنه قطعاً ليس كذلك بالنسبة لمجايليها، فبهية مثلما يحلو للمصريين تسميتها، اكتشفها عبد الرحمن الشرقاوي وقدمها على خشبة المسرح في العام 1962، ثم توالت اعمالها في السينما والتلفزيون والإذاعة، وعلى الرغم من قلة اعمالها، اذ لا يتجاوز عدد المسرحيات التي شاركت فيها السبعين مسرحية، وكذلك في السينما والتلفزيون، الا ان حضورها وانتقاءها لأدوارها وآلية تمثيلها الضاجة بالعاطفة والصدق، أهلتها لان تكون في صدارة الفنانين الملتزمين، وعلى الرغم من خوضها غمار السياسة وانحيازها – وهي اليسارية- لخطاب الناصرية، الا انها اتخذت موقفاً صارماً منها بعد ان شعرت بان ثورة 23 يوليو انحرفت عن مسارها، فكان عقابها الحبس لسنة ونصف، اختارها يوسف شاهين في فيلمه الشهير "العصفور" عام1972، الذي كان إدانة واعية لهزيمة حزيران، لتجسد شخصية بهية الخياطة التي حولت بيتها في حي الحسين الى ملتقى و" بنسيون" لرفاق يجمعهم حب مصر وناسها "الطيبة"، يومئذ كانت المحروسة تخوض حرباً ضروساً ضد أعداء الخارج والداخل، رفضت بهية بنت البلد الشجاعة والذكية استقالة جمال عبد الناصر بعد خطاب النكسة الشهير، ونزلت الى الشارع، وهي تصرخ : "حا نحارب..حا نحارب". فتبعتها الحشود مرددة أغنية "مصر يامه يا بهية.." لأحمد فؤاد نجم وشيخ امام، وصارت بهية (محسنة توفيق) رمزاً لمصر.
ومنعت الرقابة المصرية الفيلم، لكننا شاهدناه في بغداد بسينما النصر أواسط السبعينيات، وقتها كنت شاباً صغيراً شغوفاً بالسينما، تفاعلنا مع الفيلم الى حد البكاء، وعلى الرغم من رداءة الصوت والتضمين الرمزي، الا ان التعاطف مع عصفور شاهين كان طاغياً، وتكتل الجمهور في مجاميع والكل يدلي بدلوه؛ فمنهم من قال ان الفيلم مهزلة وغير مفهوم، واخرون انحازوا الى رؤية شاهين، وكنت أحدث أصدقائي عن جمال الفيلم ورقي أفكاره، وأحاول جهدي تفسير بعض رموزه، وكان صوتي مسموعاً فتجمع حولي بعض الفضوليين واعجبهم ما أقوله، واتسعت دائرة المستمعين حتى ضاع صوتي، ولأني قصير، جلبوا لي طاولة خشبية صغيرة ارتقيتها واكملت نقاشي مع جمهور متطلع في ليل شارع السعدون العليل، عدت برفقة أصدقائي الى البيت وانا منتش بسحر السينما وبقدرتي على إيصال افكاري بصوت مسموع امام جمهور لا أعرفه، ومنذ ذلك التاريخ حسمت خياري بالكتابة للسينما، هذه التداعيات راودتني عند سماعي خبر وفاة الفنانة الرائدة محسنة توفيق التي قدمت للسينما والمسرح والتلفزيون والإذاعة أدواراً لا تنسى، فكانت بحق فنانة بحجم وطن.