القلوب المتحابة المتصالحة مع ذواتها، هي قلوب لا تعرف الا الحب والجمال.. هي وسيلة الرد والردع امام كل هجمة لشخص كاره او يحاول المساس بذاك الحب. والقلوب الصافية هي التي تعبر عن عفوية الفعل وبراءته ومن ثم انها ترسم لوحة الحب الكبيرة على وجوههم وهم يتصرفون بواقعية تنم عن دروس في معنى التسامح والسلام والوئام.. ان اية بلاد في الدنيا تحاول ان تكون نسيجا واحدا قويا لان اي ضعف معناه التلاشي والزوال وخسران التاريخ برمته. وهذا لا يمكن ان يحدث في بلد مثل العراق لأنه بلد حضارات متجذرة في التاريخ ودول الحضارة لا يمكن ان تخلع من جذورها ابدا.. في احدى سنوات خدمتي في احدى الوزارات المهمة، لعبت الصدفة معي لعبة نادرة الحدوث او قل لا تحدث دائما في ظرف صعب مر به العراق آنذاك.. جاءتني مجموعة من الشباب يرومون الحصول على خدمة ما تنقلهم من حال الى حال اخر علما انهم يدرّسون مجانا في مدرسة للنازحين في حزام بغداد تبعد مسافات طويلة عن مدنهم وبيوتهم وبوازع انساني واخلاقي ووطني يشدهم للعمل في تلك المدرسة مع انهم غير متعينين كمدرسين او معلمين. لقد ذاقوا مرارة النزوح لأسباب امنية اهمها هو احتلال داعش لمدنهم وقراهم فتعاونوا بينهم في تأسيس مدرسة لأطفال وفتيان المخيم لكي لا تضيع عليهم سنوات دراسية كاملة. وافقت الوزارة على تقديم تلك الخدمة اليهم وكانوا اكثر من عشرة الامر الذي خفف من معاناتهم في انعدام الفرص وقلة منافذ الرزق اضافة الى المعاناة الاجتماعية وحداثة اوضاعهم في النزوح مما يتطلب جهدا رسميا وشعبيا لإنجاح التعايش في المخيم ريثما تستقر الاوضاع ويعودون الى بيوتهم اعزة كرماء.. بعد ذلك دعوني للحضور الى مدرستهم وقد اقاموا حفلا عفويا بسيطا تعبيرا عن الفرحة التي علت وجوههم وتقديرا لمن سعى لهم وتحقيق تلك الخدمة لهم. شعرت حينها بانني بين احضان اهلي وعزوتي واقاربي وانهم عبروا ايما تعبير عن هذا الاحساس عندما لم يسالني احد منهم من اي منطقة انا في العراق او من اية طائفة. وهكذا امضيت ساعتين بينهم كانت من اجمل الساعات، استمع الى مشاعرهم الجياشة المنسابة في الاحتفالية، فكانت الكلمات ارتجالية بريئة تعبر عن قلوب صافية محبة لا تعرف الضغينة وقد رافقتها الاهازيج والهوسات الشعبية من الناس المحتشدين مع كادر المدرسة. لم اسمع خلال الساعتين سوى مفردات كبيرة المعنى تتغنى بالنهرين الخالدين والسهل والجبل والاخوة والتسامح ونبذ كل ما هو غريب وشاذ يمس قلوبنا او قلبنا كجسد واحد.
عندما غادرتهم حاولت تبرير فعلتهم بانها ربما تكون ردة فعل او تعبيرا عن رد الجميل لكني ايقنت انها كانت صادقة وانها هي التعبير الحقيقي عن ما يمور في دواخلهم وقلوبهم الشابة التي قالت شهادتها بصدق وعفوية بعيدا عن الشعارات والمتاجرة. وهكذا كان حدسي في محله وانهم قد تصرفوا بوطنية مطلقة ولم يلتفوا او يتأثروا بالأفكار المسمومة التي كانت تشاع وقتئذ ولم يسمحوا لها بالاستيطان بينهم والانتشار.
هؤلاء الشباب كانت عراقيتهم تعلو كل المفاهيم المنحرفة ووطنيتهم تعلو كل الوسائل الشائبة التي اريد لها تدمير تلك العقول الفتية الندية ومحاولة زرع مفهوم الانحراف المدمر. فأكدت تلك الحالة بان الوطن لا يمكن ان يصادر او يقتلع من الرؤوس والوجدان وان البلاد هي ذاتها التي علمت الآخرين كتابة الحرف الاول وقصائد الشعراء وهي واحدة لا تتجزأ بنهريها وانسانها وفرادة تنوعها النادر الجميل. كانت رسالة سلام ومحبة وآصرة اجتماعية لا يمكن ان تثلم من اندفاع وحيوية اولئك الشباب الذين كانوا تحت طائلة ظرف صعب ومرير فراحت قلوبهم تنطق وتخفق قبل السنتهم فتسابقوا على رسم لوحة الولاء للعراق ورسم بسمة على وجه كل شخص كان متجمهرا هناك. فكان التلاحم مع المحتفلين قويا ومشدودا ويومها طارت القلوب محلقة فوق الربوع ترد على رسائل الموت الاسود وافكار الخراب فادركت ان القلوب هويتها عراقية لا شائبة عليها ولا شك فيها.