الحرب كانت السبب

ثقافة شعبية 2023/11/30
...

كاظم غيلان 



من يقرأ مقالات هرمان هيسه، التي تضمنها كتابه (ماذا لو استمرت الحرب) يتأكد- ولا أقول يكتشف- أن مخلفاتها أشد قبحاً من مسبباتها.

مقالات هيسه لن تتحدث عن الحرب وحدها، إنما تبوح وعبر العديد منها بظواهر إشكالية تخص المجتمع الألماني، لكن ظل عنوان كتابه يستدعي إجابات القارئ، خاصة من عاشوا الحروب وذاقوا مرارتها وشهدوا خراب بنى طرفي الحرب، اي حرب كانت، ولعل ما يحصل للبنية الثقافية أشد الخرابات وأعنفها، فالجسور، ومباني الوزارات، وأبراج الاتصالات، وغيرها الكثير لها موادها الاحتياطية، وفي حال غياب توفرها يمكن للطرف المتضرر استيرادها الا الثقافة، فمن الصعب إعادة بنائها فهي بلا قطع غيار، ولا مواد احتياطية. لحديثي أو كتابتي هذه صلة بما حصل لشعر العامية العراقية، هذا اللون الإبداعي الذي رفع راياته الجمالية قصائد وأغاني شذبت نفوس أجيال واشاعت مفاهيم الجمال بأرواحها، كان أول من سقطت عليه قنابل الحرب لتمزق جسده الطري وتقطعه اشلاءً.

فهذا اللون ولغاية نهايات عقد السبعينيات وبرغم صدور أو انطلاق أولى الرصاصات صوبه كان اسمها (قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربية)، ظل عصياً مدافعاً متدافعا بين شتى أنواع الآداب والفنون مؤكدا حضوره الفاعل الشاغل عبر كتابات الصف الشعري الذي تلى الفتح الباهر على يد مظفر النواب. كانت الرصاصات قد اطلقتها بنادق  الحكومة بقصدية مفضوحة، أسبابها سياسية خلت من اي دافع ثقافي، وافتضحت أكثر مع البدايات أو التمهيدات المبكرة للحرب مع إيران يوم استدعت أبواقها الرخيصة لتعلن التعبئة قبل أن تعلنها مديرية التعبئة والإحصاء وبرعاية ودعم رئيس الحكومة، وهكذا افتضح زيف الحفاظ على سلامة تلك اللغة الأم لتنهار على بوابات الأمة الشرقية. بدأت الحرب وبدأ خراب تلك القصيدة والناس تشاهد عبر شاشات التلفزة مهرجانات تمزق تلك العذرية التي عرفت بها القصيدة العامية. امتدت الحرب وامتد معها خراب القصيدة، غاب الإلقاء كفن جمالي امتاز به العديد من شعراء هذا اللون ولعل أبرزهم (كاظم الركابي، ابو سرحان، عبد الله الرجب، عزيز السماوي،.. وآخرون) ممن اعطوا لفن الإلقاء حقه كواحد من فنون المسرح. لم نعد نرى ونستمع لاصوات تنشد ولو حماسة، بل ادمنا رؤية وسماع صراخ منطلق من حناجر مدربة على البلطجة، تمتلك قدرات عجيبة في عنف وعدوانية تدعوك لمغادرة مكانك لكي تتنفس، لتدع نظراتك تفتش عن رؤية طائر جميل في سماء مزقتها صافرات الانذار والطائرات الحربية المحملة بالقنابل.

قصائد الحرب تلك كانت من أبرز موروثات تلقفتها أجيال وراحت تتناقلها أجيال تلتها ليومنا هذا، ولذا برزت ظاهرة (المهوال) كواحدة من افرازات ثقافة العنف في بلاد استمرت بها الحرب، فبعد أن انتهت مع إيران ابتدأت بغزو الكويت، فالحصار الذي هو أشد بشاعة من الحروب بما تسببه على مدى أعوام طويلة من دمار لكل البنى الثقافية السليمة والنفسية، وما ترتبت عليه من آثار وكان مسك ختامها احتلال اجنبي لم يزل يعصف بنا.. وهكذا ربما نمتلك البعض من هامش الإجابة عن سؤال هرمان هيسة لنقول :

استمرت الحرب وهذا خرابها فكانت القصيدة في مقدمة 

الضحايا.