ابتهال بليبل
ليست الأشياء التي بحوزتنا كلّها بالضرورة من اختياراتنا. فبعضها لا نتذكّر الظروف التي أوصلته لنا، وبعضها نتوارثه عن أهلنا، وهناك من نمتلكه عن طريق الإهداءات، مثلما حصلت على هذه اللوحة التي تشخص الآن خلفي مباشرة، وهي ترنو لي بتمعن وتأمّل، وأنا أكتب أو، وأنا أحلم، وربما أسوّغ الآن لنفسي إهمالي لها لأعوام طويلة وسط "الكراكيب" التي ربما لا قيمة لها.
هذه اللوحة هدية من عمتي، السيدة الأنيقة الجميلة، التي ربما قصدت أن تعلمني التذوق الفني، وهي تتخلّى عن لوحتها من أجلي، أنا ابنة أخيها التي تهمّها عوالم الأدب والجمال منذ صباها المبكر. فلماذا أهملتُ اللوحة، وهل هي (حالة) تعتري الجميع لحظة انشغالهم بما يظنونه مهما وترك الأهم.. هل يمكن أن نسوّغ لذواتنا تناسي منابع الجمال والتأمل بحجة الحياة ودوامتها ومصاعبها؟
وهل يكفي أن أعيد اكتشاف اللوحة وأبحث عنها، وعن مصدرها ورسامها ومعانيها الظاهرة والباطنة. هي لوحة زيتية تصور شابة ترتدي فستانا ذو قماش يبدو كالحرير، تم رسمها بزيت بينما ضربات اللون وتوزيع الظل والضوء تظهر مهارات الفنان، وتحمل توقيعا في الركن الأيمن تجعل نسبتها إلى فنان محترف "J.Luna"، مؤكدة لا جدال فيها.
التاريخ الدقيق لهذه اللوحة غير مؤكد، ولكن بعد البحث المتواصل في الأنترنيت اتضح من أسلوبها إنها ربما تعود لعام 1930 أو بعد هذا التاريخ بقليل.. وهذا التاريخ وما بعده هو فرصة كاشفة عن رغبة الفنانين آنذاك بطرح كل ما يتعلق بأحلام التغيير والحداثة وخاصة الانهيار الاقتصادي وتداعيات ما بعد الحرب العالمية الأولى.
الكثير من الأعمال التي بدأت تبرز على الساحة الفنية آنذاك كانت تتعامل مع التأملية الكئيبة والرومانسية الجريئة غاية في خلق فن يعكس الواقعية الاجتماعية، خاصة تلك التي تتعلق بالقضايا العنصرية والطبقية، غاية في تقديم نظرة رائدة عن الجمال المضطرب.
أما بالنسبة للوحة فتبدو سيدتها هادئة في مظهرها متناغمة مع ألوان الخلفية، التي تعكس مساحة صفراء تقترب من الرمادي نتيجة توهج ضوء الشمس أو ربما الضباب.
من خلال قراءاتي المتواصلة للواقعية الجمالية، اكتشفت حقيقة أن "ما يجعل العمل الفني جميلاً هو ما نسعى إليه ونتمناه خلال حياتنا"، وهو ما يؤكده الفلاسفة والمهتمون بعالم الجمال.
وضعيّة المرأة تبدو متوترة بين ايحاءات التذكر أو اتخاذ القرار في أجواء لونية غامضة، وربما نادمة تجعل اللوحة وكأنها ترمز إلى فكرة المرأة في حد ذاتها.. فكرة وجود الكائن الأنثوي في الحياة، وجوده.. مؤثرا.. فاعلاً في أدق التفاصيل، وجوده في الشعر، في النحت، في الأزياء.. إلخ.
إنّ فهم فكرة المرأة، يرتبط كليّا برغبة الفنان أو رسام اللوحة باحترام حياة النساء كما هي، وبطريقة طرحه للجسد الأنثوي الذي يعدّ أحد أقدم العناصر وأكثرها شيوعاً في الفنون البصرية، وأيضا بنواياه التي هي من أصعب ما يجب تمثيله، من خلال الشكل المرسوم وتعبيراته وحركات الأطراف والعيون.
هذه اللوحة التي ترنو بعيون ساهمة لي، تشكّل فضاء غامضا، يحاول أن يتلبسني، خاصة وهو مرتبط بذكريات جميلة ومؤسفة عن عمتي، أحيانا أشعر بعيونها -أقصد عمتي- وهي تراقبني، وأنا أكبر وأتغير في الحياة، فهل يمكن أن تكون اللوحات التي نرثها من أحبتنا هي قطعة منهم؟
من رسمها، كيف دخلت العراق، من أين اقتنتها عمتي؟ تلك التساؤلات غير الفنية، التي تدور في رأسي منذ أيام، لا تبتعد عن التساؤلات الفنية، وعن الرسم، والتأويل، والحياة برمتها عندما تكون مجرّد لوحة معلقة
على جدار.