شاعر الحزب والثورة

ثقافة شعبية 2023/12/21
...

كاظم غيلان

  "مات الصديق الوفي ..للخضرة والغابات"
هذه جملة من رثائية شاعر العاميَّة المصريَّة أحمد فؤاد نجم التي كتبها في رحيل هوشي منه الثائر، وقائد الثورة الفيتناميّة .
هوشي منه، الشاعر الذي كتب ( 100) قصيدة في سجنه وهو يقاوم الاستعمار الفرنسي دون أن يتخلى عن البندقية والشعر والمنتمي للجمال بدلالة صداقته للخضرة والغابات حيث ينتشر الثوار ببنادقهم، لربما يسهرون في لياليهم المقمرة، ولربما يغنون، فهو القائل: ( إلى جانب الكفاح يجب أن نتعلم كيف نغني).
هوشي منه، الشاعر، الثائر، الشيوعي، كتب للثورة وحمل البندقية فكان بحق شاعر القول والفعل، فهو لم يدعيها، ولم يستعرض بطولاته عبر وسائل الإعلام، ولم يغرق نفسه بالأنا المتضخمة التي ترتفع حتى تصل أعلى درجات النرجسية التي تقتل حملة الهويات واللهاث المفرط خلف مؤسسات النجوميات الزائفة .
امتزجت ثوريته بموهبته الشعريَّة التي لا تقوى قضبان السجن على صدها، إنه الأفق الذي ينفتح مهما بلغ القمع قوة .
أول مرة سمعت بها الألقاب الناريّة كانت في احتفال جماهيريّ بإحدى حدائق المدينة وكنت حينها تلميذا في الأول المتوسط ودفعني الفضول مع أصحابي لأن نقف عند سياج الحديقة ونحن نرى الحّشد الجماهيريّ وقد تصدره صف من مسؤولي المدينة الحزبيين والإداريين فأعلن عريف الحفل عن قصيدة لـ( شاعر الحزب والثورة) ادهشتنا التّسمية التي لم نألفها من قبل، فذاكرتنا لم تحتفظ إلاّ بلقب( أمير الشعراء) الذي أطلق على أحمد شوقي .
راح شاعر الحزب والثورة يلهب الحضور بحماسته بينما التصفيق والهتافات بحق الحزب والثورة تقاطعه، ولم تزل ذاكرتي تحتفظ بهيئة الشاعر مرتديا بذلة ( رصاصية) وربطة عنق ونظارة سوداء سميكة . مرت سنوات طويلة بعض الشيء، أخذ نجم الشاعر بالأفول فعرفنا بأنّه فصل من الحزب بسبب إعدام شقيقه المنتمي لأحد أحزاب المعارضة المعادية للحزب والثورة اعقبتها عقوبة إحالته على التقاعد دون أن تشفع له قصيدته ( الرنانة) ولا التصفيق الذي رافقها، وتهأوت طأووسيته وهو يمشي في سوق المدينة مطأطأ الرأس بعد أن جرده الحزب وقمعته الثورة. مع تفتح مداركي المتواضع، عرفت أنّ ذلك كله كان تسويقا عملت به الماكنة الإعلامية، مع أنها لاتؤتمن أبدا، ولنا في تصفيّة مؤلف النّشيد الوطني للبلاد الشاعر شفيق الكمالي خير مثال .
في واحدة من نواحي إحدى المحافظة برز ( شاعر مدير الناحية) الذي يصرخ مادحا مدير الناحية كل صباح مع بداية الدوام
بـ( هوسات شعبيَّة ) حتى توطدت علاقته بالمدير وأصبح( واسطة) قويّة. صادف أن نقل المدير هذا معاقبا، وكان سائقه شديد التحامل على شاعره المفضل ومع أول يوم لالتحاق المدير الجديد بدأت وشاية السائق بقوة على الشاعر فتقرر وبورقة علقت في لوحة إعلانات الدائرة تنص على : (يمنع دخول شاعر مدير الناحية السابق) وهكذا ألتحق برفيقه شاعر الحزب والثورة .
أنظمة كهذه يمسك بإدارة شؤونها قطيع من أشباه المتعلمين تجهل حتى أبسط قواعد التسويق الإعلامي لفرط زيفها. بينما الثورات تصنع مايبقي نصاعة نواياها وطموحاتها، مع أنه ولمن العيب أن أقارن هوشي منه بشاعر الحزب والثورة وصنوه شاعر مدير الناحية، لكن ذلك جاء من باب.. أحذروا التسويق.