ليلة في ضيافة بابا نوئيل

منصة 2023/12/24
...

 يوسف أبو الفوز                    

خريف هذا العام، خلال زيارة مناطق لابلاند، في شمال فنلندا، وتحديدا مدينة روفونيمي (895  كم شمال هلسنكي)، قررنا وشريكة حياتي شادمان، أن نقضي ليلة في ضيافة السيد بابا نوئيل، فتوقفنا عند قريته، التي تقع بالضبط عند خط الدائرة القطبية Arctic Circle على الاحداثيات السحرية (66 ° 33 '07')، وحرفيا عند (سرة القطب)، حيث أقصى خط عرض في نصف الكرة الشمالي.  إلى هناك يتوافد السواح من كل أنحاء العالم لتسجيل زيارتهم للموقع الفريد، ولقاء بابا نوئيل، الذي يتسيد المشهد، وتبين لنا أنه أصبح عصريا جدا، فهو لم يعد ذلك الرجل العجوز الذي يركب زلاجة تجرها الايائل وتطير في السماء ليترك الهدايا للأطفال المطيعين.
فقريته ـ المدينة، تحوي شقق سكنية من أربع وخمس نجوم تتوفر فيها كل متطلبات الراحة، وبيوت ــ خيم زجاجية ساحرة، وسلسلة من المطاعم الفاخرة، وعدد لا يحصى من محلات بيع الهدايا. ولم يعد يعتمد على حيوان الرنة فقط ومجموعة من الاقزام، بل لديه أسطول من سيارات الخدمة وجيش من العاملين من مختلف الأعمار والهيئات. 

يصطف الناس عادة بالعشرات بطابور خاص لأجل اللقاء معه والتقاط صورة يدفعون ثمنها، وفي موسم أعياد الميلاد يكون طابور الانتظار يمتد لأكثر من كيلومتر. حين سمحوا لنا بالدخول لغرفته، حيث يجلس مهيبا على مقعده الوثير، سأل أولا عن موطننا الأصلي، وتبين أنه يعرف العراق، وفي حديثه مع شادمان عرض معرفته بكردستان والكرد.

 أخبرته بأننا نعدّ أقرباء لحد ما وذوي صلة، إذ أجبرت يوما على ارتداء ملابسه، وأداء دوره وجعلته يتحدث العربية والكردية، أُعجب بالحكاية وطلب روايتها، ودعانا لالتقاط صور خاصة للذكرى وطلب الايميل لإرسالها كهدية وأعفانا من دفع ثمنها، وحين سألني إن كنت أحمل له رسائل من أطفال العراق، بادرت شابة من مساعديه وانقذت الموقف ورمت لي بحزمة رسائل لأجل الصورة.

أما كيف أصبحت بابا نوئيل، فذلك كان في شهر كانون الأول/ ديسمبرعام 2008، كنت أعمل حينها منسقا للبرامج في مؤسسة اجتماعية ثقافية، وأعددنا كل شيء لحفل عيد الميلاد الصغير في مدينة يارفنبا (42 كم شمال العاصمة هلسنكي)، والذي يقام عادة في مؤسسات العمل والمرافق الثقافية والاجتماعية، ويسبق عيد الكريسمس الكبير، وكان مخصصا أساسا للمتقاعدين. حضر الضيوف، بعض الجدات جلبن معهن أحفادهن وامهاتهم، وسراً اعطانا ضيوفنا هدايا لبعضهم البعض، ولأطفالهم مكتوب عليها اسماء اصحابها، ووضعناها في كيس بابا نؤيل. وكنا أعددنا برنامجا منوعا يحوي فقرات خفيفة وطريفة تتناسب والمناسبة والضيوف، وفجأة توتر الموقف، وكثر التدافع عن باب المطبخ الذي تحول إلى غرفة لقيادة الحفل، وذلك حين وصل أتصال هاتفي من زوجة الرجل الذي كان مقررا أن يقوم بدور بابا نوئيل في الحفل، يفيد بأنه تعرض إلى وعكة صحية وتم نقله إلى الطوارئ في المستشفى وهو يعتذر ويقول: دبروا حالكم ! 

تصاعد أكثر من صوت يسأل: ماذا نفعل؟ 

ــ لا وقت لدينا لإيجاد بديل .

  وصاحت إحدى الزميلات: 

ـ محلولة. لا يوجد مشكلة. هاتوا الملابس ويوسف موجود . 

والتفت الجميع نحوي، أنا الأسمر، ابن صحراء السماوة، الذي لا يزال يتلعثم ويُلحّن بالكلمات الطويلة الصوتية في اللغة الفنلندية. لا يوجد شبه مع بابا نؤئيل حتى كرشي كان في بدايات عمره، ولا يفي بالغرض.

ـ  عزيزتي، أي بابا نؤيل هذا ويتحدث الفنلندية بلكنة اجنبية، ولو سأله احد الاطفال فجأة شيئا، ولم يفهمه ماذا سنفعل؟ 

ـ انا سأكون إلى جانبك.

وأسقط بيدي ولم يكن هناك أي مخرج آخر، أجبروني على ارتداء الملابس، وخلالها خطر لي حل بارتجال مشهد يخرجنا من الورطة، وحين اديناه وجد له صدى ولقى قبولا عند الأطفال وعوائلهم. لقد دخل بابا نوئيل الحفل يغني باللغة العربية. وفوجئ بناس ولغة غريبة. فتحدث معهم بالعربية ثم بالكردية، فلم يفهموه. وتحدث بالروسية يسأل أين أنا؟

ـ  يبدو أني جئت على عنوان خطأ؟ أي بلد هذا؟ 

 فأخبروه أنه في فنلندا. وتحدث معهم باللغة الانكليزية أولا، ومازح بعض كبار السن، ثم بدأ يتحدث قليلا باللغة الفنلندية، وكأنه يتحدثها لأول مرة ويتعلمها وكان شاطرا وذكيا، صار يمزح بالفنلندية، ولكن لكنته الأجنبية واضحة جدا وأصبح لديه العذر بذلك. والتف حوله بعض الصغار والكبار يسألونه عن المكان الذي جاء منه.

وفتح كيس الهدايا، وبدأ ينادي على أصحاب الهدايا بأسمائهم، ويعطيهم هداياهم التي تمنوها. وكان الأطفال فرحين من بابا نؤئيل الغريب، الذي يغني بالعربية ويدبك الكردية، وتحدث لهم عن بلد اسمه العراق ودجلة والفرات ، وجبال كردستان والثلج ،التي عمل فيها لفترة قبل ان ينتقل للعمل في شمال فنلندا، في قرية بابا نوئيل.

وتخبرنا الأساطير بأن بابا نوئيل المشهور بشكله الضاحك كرجل عجوز سمين بلحية بيضاء مثل الثلج وملابسه التي يطغي عليها اللون الأحمر، الذي في اوربا يسمونه "بابا نوئيل" ففي أمريكا اسمه "سانتا كلوز"، وفي فنلندا اسمه "يولوبوكي"، وجاء الاسم الفنلندي من العادات الفنلندية القديمة عن رجل كبير السن يرتدي ثياب الماعز ويجمع الطعام بعد اعياد الميلاد ، ولكنه مع الزمن تداخلت وتماهت في الشكل مع الشخصية الامريكية. وهو يعيش في القطب الشمالي مع زوجته وتساعده مجموعة من الاقزام لتحضير الهدايا التي يقدمها لأطفال العالم الذين يدور عليهم كلهم في ليلة ميلاد السيد المسيح بزلاجته الخشبية السحرية التي تقودها الأيائل، ويضع لهم الهدايا تحت شجرة الميلاد التي تكون عادة من الصنوبر، حقيقية او بلاستكية، والمعروف انه يدخل البيوت من المداخن او الشبابيك او الشقوق في المنزل ، واذ تحتفل العائلة وتجتمع الى المائدة التي تزدحم بمختلف المأكولات والمشروبات يفتح الأطفال الهدايا التي جلبها لهم بابا نوئيل، والذي لا يمكنهم أن يشكوا بحقيقة وجوده إلا بعد أن يصلوا سن البلوغ ليعرفوا أن كل الهدايا كانت من أفراد العائلة ولا وجود لبابا نوئيل إلا في مخيلتهم والتراث الشعبي .

تقول كتب التاريخ إن أصل هذه الشخصية الاسطورية، يستند إلى شخصية حقيقية هي الاسقف نيقولاس اليوناني عاش في القرن الخامس الميلادي في بلدة ميرا "Myra" القديمة (الان اسمها  Demre ) في منطقة ليشيا "Lycia" في الأناضول (تركيا الحالية)، عرف كرجل صالح دافع عن الفقراء والمظلومين وأحبَّ الناس فأحبوه، واهتم بالأيتام والفقراء والأطفال والأرامل، وكان يقوم أثناء الليل بتوزيع الهدايا للفقراء والمال لعائلات المحتاجين، دون أن تعلم هذه العائلات من هو الفاعل، وصادف أن توفي في شهر كانون الاول/ ديسمبر، فتعززت شهرته ليصبح من كبار القديسين وصار يعرف بالقديس نيقولاس .

صورة وشكل بابا نوئيل ولدت على يد الشاعر الامريكي "كليمنت كلارك مور" (1779 ــ 1863) الذي كان استاذا للآداب اليونانية والشرقية في جامعة كولومبيا، وكان أيضا استاذ تدريس الانجيل الكتاب المقدس، حين كتب قصيدة "زيارة من القديس نيقولاس" والتي صارت تعرف بعنوان "الليلة السابقة لعيد الميلاد" (The Night Before Christmas) ، التي نشرها لأول مرة عام 1823 دون أن يضع توقيعه عليها، وصار يعاد نشرها باستمرار دون معرفة كاتبها ، وفقط في عام 1844 اعترف بكونه كاتب القصيدة اثر ضغوطات من عائلته .

في هذه القصيدة رسم الشاعر الهيكل الاساسي لأسطورة بابا نوئيل، الزلاجة السحرية وغزلان الرنة والجرس الرنان، والدخول عبر المدخنة محملا بالهدايا للأطفال والفقراء وشكله المتميز "وجنتيه مثل الورود، وأنفه مثل الكرز" و" كان لديه وجه واسع وبطن مستديرة قليلا" و" ممتلئ الجسم وسمين " و"اللحية البيضاء مثل الثلج"، وراحت هذه الصورة تنتشر عنه حتى بادرت شركة كوكا كولا، ومن أجل ترويج شرابها في كل الفصول الى حملة اعلانية أبرزها صورة بائع ينتحل شخصية بابا نوئيل في متجر مع مجموعة من الأطفال، ففي عام 1931 صمم فنان الإعلانات هادون سندبلوم، وهو ابن لمهاجرين فنلنديين، شكل بابا نوئيل، مستفيدا من قصيدة "كليمنت كلارك مور"، ونجح الاعلان والشخصية التي عممت وشاعت وصارت معروفة في الرسوم والمسرحيات والافلام وبطاقات التهنئة .