خضير الزيدي
تبدو قدرة الفنان علي رسن في النحت بحاجة دائمة إلى تأمل، فهي تضعنا عند متغيرات شكلية وتعبيرية بين فترة وأخرى حتى أننا لا نجد فرصة لنبدي رأيا فيما تذهب إليه تلك المنحوتات من تصورات ذهنيّة وجماليّة. فما قدمه في معرضه الأخير في قاعة أكد يأخذنا إلى دهشة من نوع مختلفة. وأعتقد أن مهارته وقدرته التعبيريّة وصدق ما تنتمي اليه مشاعره، هي من الأسباب التي تجعلنا نقف بذهول أمام منجزه النحتي.. فما الذي طرأ على أدواته في العمل الفني لتتغير، وما الذي قدمه للمتلقي؟
لنتفق جميعا على أنّ معرضه هذا كان ناجحا بشكل ملفت، هل لأن علي رسن تأخر فيه، أم كونه مثل جانباً من محاولات الارتفاع من شأن النحت العراقي في زمن خلا فيه الفن من اقامة معارض موفقة؟
أكثر من عشرين عملا نحتيا تحمل وجوها آدمية بأشكال مختلفة أضيف اليها التركيز اللوني والاختلاف في الاحجام، هو ما شهدته قاعة أكد من منحوتات لهذا الفنان، كانت تلك الوجوه في حيرة من أمرها وصمت مطبق تتعاين في وجوهها لتكتشف مدى ركيزة الصمت.. كأنها تماثيل خارجة من زمن سحيق تريد الافصاح عن قوة احتجاجها، لكنها مجبرة على الصمت والذهول والترقب وهذه القدرة التعبيرية، تلزمنا كمتذوقين لأعماله أن نعرف مدى قوة خياله وأين تتجه ذائقته وخطابه التعبيري؟
إن ما رأيناه من منحوتات كانت اساسا لبناء رؤية فنية خلت من الزخرفة، وبدت درجة انتمائها للتعبيرية في أعلى درجات الفن، ليس لأنها محملة بطاقة من الخيال الفني والغواية في الشكل كما في الوجوه التي تحمل رقبة طويلة، بل لكونها فرضت هيبتها من حاجتنا في رؤية أشكال متمردة وتزداد لمعانا في المتخيل من الشكل، وهذا ما كسا منحوتاته لتبدو طرازاً معمارياً من نوع مختلف، فهو يؤلف بين شكل متغير بسياق (بورتريه) مع حاجة لطرح مضامين متنوعة لكل وجه من تلك الوجوه.. فالعمل بقدرته وتواصله لا يبرهن على الاثارة بوصفها استقلالا في متن ما ينجز بقدر ما نجد ترابطنا بين قدرة الاشتغال، ومراجعة ذهنية لطرح معين يراد له أن يكون نابضا بكل حيويته.
هذا البناء والتمثيل هو اجراء مقصود سواء عبر التقنية أو عمق حساسية الشكل المراد ايضاحه أمام المتلقي، إنه اتجاه نفسي يحدد من الوهلة الأولى.
إن لكل منحوتة من تلك الأشكال حكاية لها مضمونها الخاص بنا، مع وجود نسق تعبيري دال على ما تذهب اليه رؤية الفنان جماليا وبنائيا.. وقد سبق أن ابدى الكثير من تلك الأعمال في فكرة صريحة المعنى.
قدم رسن معرضاً مختلفا عن منجزه السابق، وهو يكابد فيه لأجل الوصول لغاية هي بمثابة انطلاقة لتجديد النحت العراقي وكسر رتابة. ما نراه من أعمال لا تغني شيئا أمام المتلقي ومصدر اغرائنا في الاكتشاف، بأن لذة منحوتاته هي بمثابة صوتنا وهاجسنا الطليعي. ولكن يبقى التساؤل هل هناك متغير ثقافي طرأ على رؤيته الفنية من خلال منطق التراكيب ودواعي تجديد بنية الاشكال وميلها إلى البناء الواضح؟
وفقا لما رأيته وتابعته من أعمال سابقة انجزها رسن أستطيع القول إنه مختلف ومثابر، ولا يميل إلى غزارة انتاج على حساب النوعية. إن مهارته وقدرته في تأمل كل ما من شانه أن يأتي بجديد كفيلة بأن ننساق وراء كل معرض جديد له، فهو لا يخفي نزعة مثالية ولا يبث لنا إلا ما هو جميل وذات وجهة تعطينا شغفا بالنحت. وهذا ما حدث من خلال معرضه الأخير، فقد تحرك بهدوء وثقة وجعل الانظار تلتفت اليه لأنه عزز من وحدة أعماله الموضوعية، وجعلها تستند إلى قاعدة بنائية وشكلية رصينة تحمل تصورا ورؤى تخصنا جميعا.
الجديد في فنه أنه مكرس لنزعة واقعية في الوجوه كانت مشيدة بطراز حداثة أقرب للبساطة منها إلى التجريد وغياب الفكرة، وفي موازاة ذلك برع في ابداء أشكال صامتة تثبت على سياق هويتها الاجتماعيّة والتاريخيّة. وهذا التشبث بالهوية للبورتريه لم ينحصر في ظرف معين، بل بدت لنا وكأنها سياق له تاريخ وارتباط وثيق مع عناصر النحت العراقي القديم، وهذه هي فكرة وأساس اية حداثة يريدها المتلقي، وهو أن يستمد الفنان إبداعه من خلال الترابط بين القديم والرؤية الجديدة في العمل التعبيري.