الدولة، وحدة هوية ووحدة نظام ووحدة إرادة ووحدة سياسة، وأي دولة تفتقد الوحدة تعيش التشظي على مستوى هويتها الوطنية ونظامها السياسي وإراداتها الحاكمة وسياساتها الداخلية والخارجية، فهي مسمّى دولة، مفعول بها وليست فاعلة. وأهم مظهر يعكس وحدة الدولة هو سياستها الخارجية.
السياسة الخارجية هي (فعل) الدولة تجاه الآخر (الدول)، وهو نشاط متعدد الأوجه وموحد الرؤية والمصلحة تترجمه قرارات وسياسات صنّاع القرار الرسمي للدولة تجاه الدول/ المنظمات الدولية/ المحافل/ الأحلاف، وهي التي تموضع الدولة في منظومة العلاقات الدولية والتي هي أشمل من السياسة الخارجية أو الدبلوماسية للدولة. على أنَّ فعل الدولة الخارجي ونشاطها (السياسة الخارجية) لا يمكن بحال أن يكون موحداً وعاكساً لطبيعة الدولة وضامناً لمصالحها دونما وحدة داخلية للدولة المعنية تترجمها وحدة القرار والسياسة.
السياسة الخارجية إنعكاس لوحدة أو تشظي الدولة داخلياً، وإذا ما رأيت دولة اللا موقف أو الدولة المتماهية قواها مع المحاور الأجنبية أو دولة المواقف المتعارضة في تعاطيها مع الآخر (الخارجي)، فاعلم، أنها دولة تعيش أزمة داخلية على مستوى وحدتها ونظامها وحيويتها وتضامنها الوطني،.. فلا يمكن توقع سياسة خارجية موحدة وضامنة للمصالح الوطنية مع انقسام الدولة على نفسها وتعدد الرؤى لطبيعة مصالحها وتضارب إرادات مراكز القرار والنفوذ فيها. إنَّ تشتت السياسة الخارجية للدولة يعود إلى ثلاثي: اختلاف الرؤى لقوى الدولة، وتضارب مصالح مراكز النفوذ فيها، وافتقاد الدولة للنواة الصلبة للحكم الضامنة لوحدة السياسة وسيادة القرار.
صناعة السياسة الخارجية للدولة تتطلب: أولاً، التسليم بشرعية الدولة وواحدية مؤسساتها وأوحدية قراراتها بصياغة مواقفها المطلوبة تجاه الآخر (الدول)، وثانياً، تتطلب حكماً فعّالاً حاملاً لرعايا الدولة للالتزام بسياساتها المحققة للمصالح الوطنية، وثالثاً، تتطلب تضامناً وطنياً شعبياً يحمي ويدعم قرارات وسياسات الدولة، ورابعاً، تتطلب وطنية رفيعة من قبل قوى الدولة بتبني المصالح الوطنية وليس الجهوية والخاصة، وخامساً، تتطلب كفاءة مهنية لقادة ومؤسسات الدولة بفهم قدرات وموارد وتموضع الدولة لصناعة سياساتها الخارجية بأفضل السبل لتحقيق مصالحها.
تحتاج الدولة دوماً إلى تحديد واضح وحاسم لـ (مسطرة) المصالح الوطنية التي تتصل بالدولة ككيان وأمّة وهوية ونظام ومصالح على تنوعها، ومتى ما افتقدت الدولة لمسطرة المصالح الواضحة والحاسمة، أو تعارضت مساطر المصالح على وفق أجندات القوى الفاعلة فيها، أو اختلفت المساطر بين أركانها ومؤسساتها بفعل الفوضى وعدم الضبط، فلا يمكن الظفر بسياسة خارجية موحدة وضامنة لمصالح الدولة، وعندها ستكون الدولة مستلبة وفاقدة لوحدة المصالح العليا.
لا يمكن اعتماد أي شكل من أشكال السياسة الخارجية الناجعة مع (الآخر) دونما إنجاز لـ(الأنا) الوطنية قبال (الآخر) الأجنبي، فتماهي الأنا الوطنية بالآخر الأجنبي يفقد الدولة الخصوصية والاستقلالية ومسطرة المصالح الخاصة بها. إنَّ إنجاز (الأنا) الوطنية هو إنجاز لكينونة الدولة القائمة على وفق وحدة كيانها ونظامها وخصوصيتها وسيادتها ومصالحها الخاصة.
في مراحل التحدي الوجودي للدولة، أو في مراحل الاضطراب والصراع الإقليمي الدولي، أو عند اجتياح الأزمات المهددة لمعادلات الاستقرار،.. تحتاج الدولة أكثر من أي وقت مضى لوحدة السياسة وواحدية الموقف لضمان تحقيق مصالحها، وهو ما يتطلب وحدة نظامها السياسي وفاعليته وتضامن الأمّة معه.