«الأدميرال لا يحبّ الشاي»: فانتازيا التاريخ

ثقافة 2023/12/25
...

  يقظان التقي

رواية «الادميرال لا يحبّ الشاي» للروائي العراقي نزار عبد الستار، صورة تعبيريَّة واقعيّة من تاريخ  البصرة والمنطقة  في القرن التاسع عشر، ونظرات تخضع المادة التاريخيّة إلى تجريد واع، ولسردية متدفقة تتوسع لتطال فنون العيش في مدينة كانت في لحظة استلاب استعماري/ امبرياليّ، من خلال نصوص تمثيليّة غنيّة وجميلة  مفتوحة بين الواقعي والتاريخي. مطلع العام 1850 تخلت الباخرة “كلايف” القادمة من بومباي عن خمسة صناديق شاي في ميناء البصرة حيث يقضي الأدميرال عزيز لانكستر عقوبة النفي. تبدأ سياسة الترويج للشاي بالتوازي مع سلسلة من الاغتيالات للهولنديين الذين يتاجرون بالقهوة. حتى بات الشاي المشروب الأول في الجنوب العراقي في الصراع الأنغلوساكسوني/ الأوروبي على العراق .

نزار عبد الستار قاص وروائي من الأسماء والأصوات الروائيّة الكبرى العربيّة.
متعدد في تفكيره وفي نصوصه وانفتاحه، بلا حواجز ولا طقوس جاهزة.
تتحرك موضوعات رواياته بخلفياتها ونصها المفتوح وهي قابلة للتفكيك والتحليل والاستقراء أو الاستنتاج، تتوسع إلى فضاءات شاملة في عمق  قاموس فلسفي لأفكار واسماء نهضويّة في  تلك الفترة، وليست معنية برسائل تبشيريّة/ تنويريّة لطروحات أمثال جون لوك، وديفيد هيوم أو ستيوارات ميل، أو نظرائهم الفرنسيين في الحنين بين زمنيين، بمقدار ما هي بنيّة واقعية مركبة من جماليات تعبيريّة وانسانيات مجهولة، وروافد تاريخيّة بتنوع ايقاعاتها ومسالكها وشخصياتها المتعددة.
في مقاربته لشخصية الأدميرال يوهمنّا عبد الستار بتشكيلاته، بشكلانيّة  شخصيّة صاحب البدلة العسكرية الزرقاء.
لكنه تجريبي بامتياز، تجريبي خلاّق، لا يقع في نمطيّة الرواية الواحدة التي تتمحور حول شخصيَّة مركزيَّة، ويفاجئنا بنهاية الرواية انها شخصيّة أكبر، سياسيّة كبريطانيا العظمى، ويقف حينا في فضاءاته النصيّة عند الشخصية الهولندية والبنغالية والهندية والفرنسية والبصرانيّة، وتلك الشخصيَّة العربيَّة الهجينة من عرقيات مختلفة، والهامشية وحتى المنسيّة، من نوع ذلك الاختراق، والعبور لواقعيّة لا تقف عند سهولتها وبساطتها، بل ذكيّة حين تجتاز الطريق غير المباشرة عبر سلسلة أحداث حيوية وسلسة في عوالمها الفانتازية والسفليّة .
كل ذلك عبر شروحها ونزواتها ونصها وسخريتها وشاعريتها وجمالياتها كجزء من عوالم أخرى، وحروبها التنافسية في تجارة الشاي والافيون في تجارة المدن وموانئها.
الأدميرال لايحب الشاي سرديّة روائية واسعة في 260 صفحة من القطع الوسط، عن منشورات “دار الساقي”، بيروت 2023، وبالمعنى الروائي التشويقي والتزويقي والوصفي والبلاغي اللغوي، والغنائي والتهكمي الساخر، والجنسي الخصب مع (ماريكا).
تلك الذاكرة الجسدية المشتعلة تحت أضواء الحانات الليلية الخافتة، وبحساسية شعريّة تصويريّة وتعبيريّة وتشكيليّة فاتنة تسعى لبناء معماريّة بكل حواسها المجهولة  تحت الدخان وما وراء الدخان الكثير في تلك المرحلة التاريخيَّة. كأنه سعي لتشكيل قاموس لغوي، وآخر بصري من ملابس تلك المرحلة وأقمشتها وألوانها وغيومها، إلى عمارة المكان والبيوت التاريخية، وغرفها وشوارعها ومقاهيها وأسرها وعائلاتها، يضاف إليها أطياف الطبيعة الاستعمارية بوجوهها  وظلالها المختلفة. أوقعنا عبد الستار  في حيرة وسخريّة ما بعد حداثيّة، هل يسخر من جنرالات الحرب، أم يمجدها؟ هل يسخر من الأدميرال، أم من بريطانيا نفسها، أم من تجربة التاريخ الذي يكرر نفسه ويهضمه جسد امرأة  صنوان المدينة نفسها العاهرة؟
فالادميرال هو جنرال وأكثر من تاجر لصناديق “الشاي الأسود”، وأكثر من زير نساء، وأكثر من ممثل لامبراطورية عظمى، أو ممثل لتعدديّة عرقيّة، أو ممثل وحشي لتاريخ من أعمال القرن التاسع عشر. هي سيرة بطل حرب منفي في البصرة 1843، يعمل لشركة الهند الشرقيّة البريطانية تاجر، مدمن كحول ونساء وحانات، سجين بدلة عسكريّة تحمل مجدا هاربا، وارتدادا لزاوية من تاريخ البصرة وشط العرب الذي كان جزءا من العالم.  
حانة البصرة على الميناء العتيق، كانت مسرحا  للتعبير والحرية والنقد والاحتجاج  والتمرد على والي وحاكم البصرة العثمانيين، العاجزين على أن يقوما بأي شيء، وعلى الفرنسيين في دجلة والفرات، وعلى الهولنديين، “ما دامت الحجارة لا تقع على رؤوس عسكرنا، والنتائج موجهة لهولندا وفرنسا، فالأمر لا يستحق القلق”، عالم من الاستلاب، ومن الانتقام من عالم غير مشرف في حياة السير لانكستر الذي قتل الكثير من الهنود ومن الإنكليز، ومع ذلك قدم خدمات للتاج البريطاني. غلاف مشاعر مختلطة، وسط عالم استعماري غلفه الراوي في طيّات رغبات جنسية جامحة/ مجنونة مع “ماريكا” وقصص نسائها “دم القمر”، ومع قصة الشاي الأسود و”ماذا خلق الله بعد الأفيون” غير  شاي المركيزة ألينا كليفورد.
زمن من الاغواء بغلاف استهلاكي بغيوم شاعريّة الحانات (على غرار حانات أمستردام)، وبتوهج اسم بطلة الرواية (ماريكا) القادمة من زنجبار، والتي  تحب الجنرال وتدربّ فتيات الليل.
رواية تجري على سرير الرغبة والمنفى (دخول الحانات، مثل قبول الهدنة مع الآخرين)، وصور المجتمع الذكوري المركبة من خلال الأدميرال العاشق والشجاع والقوي والمتنمر مع خادمه “عنق الأرنب”.
رواية لفيلم طويل عن الحرب والمرتزقة والناس الاصليين والهنود ومزارع الماس والتوابل، وفرقة “دم القمر” مع “بنغاليات الرقص في الحيض” (طقوس اللّغة القوية عند الروائي).
رواية ترسل إشارات عن  العبودية والرق وتجار الحروب والقتل “لا أستمتع إلا بقتل الهنود، الله لن يسأل عن الهنود”. فيصير الشرف الملكي في استقامة وخيانة وتهور أمام الصيني “المخنث”، وبكل العنصريّة (البروتستانتية) وسط العرب والمسلمين والزنوج. بالتأكيد هي البصرة وليست نيويورك “كل المدن تعيش الشتاء والصيف إلا البصرة فهي تمر أبدي، إنها شبه مدينة التفاحة الكبيرة، سكان البصرة يحتاجون الشاي الساخن لهضم التمر”.
إذا هي قصة  شاي آسام الاسود. هي تجارب المنفى ومكنوناتها في شخصيّة الجنرال الملتبسة، مع أشياء أخرى من الجنوب العراقيّ وطبائعه ومزاجه في الحب والرقص والغناء والمجتمع المفتوح. أطار سردي مفتوح لمنفي رسمي، لتحليل فرضيات محتوى استعماري (على البشر تقاسم ثروات الأرض، ولو لم تفعل بريطانيا ما فعلت في الهند لمات العالم كله من الجوع وعاشت الهند فقط”، بتداخل مع الجانب العبثي/ الطبقي/ والجسدي. ثم هي رواية لغة الجسد، في هامش التعدد العرقي والتجاري والثقافي والاجتماعي وتجارة الرق الأبيض والأسود، إلى الادراك الحسيّ لشخصية تتحرك بين تمرد حينا، وفظاظة حينا آخر.
ومثلها  الصراع  التجاري بين هولندا وبريطانيا. تلمح الرواية أكثر بخلاف العنوان إلى شخصيّة مدنيّة عاشت تحولات البدلة بالطول والعرض والنياشين، بالانتقال من زمن إلى زمن آخر، ومن دون تنازع لانكستر عن الثوابت الملكيّة الراسخة حينها (مع أن السيدة بريطانيا لم تسامحه).
كأنها الرواية تفويض ملكي لانخراط المجتمع في استهلاكيّة وحروب مختلفة، وتجاوز المحرمات والممنوعات السائدة إلى الميناء المفتوح على عوالم البلاد الأربعة. هل هي البصرة التي تسعى أن تكون مدينة، أم هي مشكل الهوية، والحاجة الملحة إلى عودة الروح إلى الهوية المركبة، وبناء رؤية عراقيّة جديدة من ضمن رؤى عالميّة أخرى؟
رواية نزار عبد الستار ممتعة/ جذابة، متدفقة/ متفجرة لغويا في الوصف والتّصوير، تشكل قاموسا كاملا من اللغة “السفلية” والراوي في تجرؤ ومهارة وتماسك، وايقاع سلس وممسوك، على نحو لا يقع في الاستسهال، مشغولة بتصميم ووعي، وبخيط رفيع يفصلها عن البيوتات الروائية الأخرى، ما يرفعها إلى مستوى الجماليات التعبيريّة الواقعيّة، وما يصنع الذات الروائيّة العميقة التي تدمج معها المجتمع والإنسان والماضي والحاضر والمجهول والجنون والرغبات المستحيلة والوعي واللاوعي والخيال الجامح. رواية متفجرة وذكيّة.