هُولوكوست الانتظار

منصة 2023/12/26
...

 د. قاسم جمعة

  لماذا يمتدحُ (برتراند رسل) الكسل ويذم العمل ؟.ولا يُسرد ماركس أناشيده المادية طرباً سوى للعمل الكادح؟ لماذا يُعد الترف معياراً للانحطاط عند صاحبنا ابن خلدون ونظيره الفرنسي روسو؟ ولماذا الوضوح والتمايز الديكارتي أمسى فرماناً سياسياً، بعد ما كان شرطاً كافيا للفكرة لا يستغني عن وجود الله، بوصفه ضامنا لتحقق الحقيقة؟ لماذا ننتقد الدين، وموائده تسعف المشردين! ونمتدح الساسة والعار يسكنهم وبيوتهم بُنيت من كدح الفقراء وصندوق الضحك على الذقون يُعمر الخراب؟ لماذا ترك روسو أطفاله وراح يرتزق من عاهرات الزمن الرومانسي الجميل؟ والباب لماذا وُصدَ بوجه سبينوزا، عندما سمع أن أستاذه اُعدم، لكي لا يقتل فيكون شهيدا، كسقراط أو برونو الذي حُرق مثل الحلاج؟

هولوكوست الفلسفة يتراءى لعيني كل محدق في جحيم الألم.. وحماقات الفلسفة تُدرسُ في كراريس يحملها من ينتظر الخسران..

لنختر الحمق المذموم. سأتخذه سبيلا لأتحرر من عقلانية، تفترض بي أن ألهثُ وراء ظلام المنطق الارسطي وقياساته المبنية من ورق.

لنختر الصمت، لأنه يخلصنا من كلام وصياح ونباح لا يجدي نفعا، سوى بتكميم الافواه وشراء ما لا يمكن بيعه. ولنختر القبح ما دام الجمال أضحى بيد من يمتلك أزرار الحقيقة، ودكاكين الأسى ترفرف أعلامها، معلنة نهاية اليقين. لنختر الجهل لأنه ريح.. والغباء نزهة العقل الأعمى. فلماذا نفضل الذكاء عليه أو يتبجح العقلاء بالدهاء الذهني، وهم لا يعرفون أن الراحة والطمأنينة بالجهل المقصود، ومن أجل الجهل المقصود، لا باصطناع الجهل السقراطي المقيت وتوليده لأساطير العقل الماهوي المنظم.

لنختر السحر ما دامت الأذرع الفولاذية للحداثة، التي حدثنا عنها ماكس فيبر، تملًكها من يلوك بفكيه المشاعر ويفترس المعاني بوقاحة إحساس البذاءة.

هولوكوست الانتظار أنعش لدينا بدم بارد، لعنة القبول. وجنة الرفض، صارت مرتعا لتلصص من يزمر لهوى الأمزجة وحماقات التفاهة.

من قتل الحسين ومن عبد الطريق له لكي يأتي لنحره من الوريد بعد مماته. ومن صفق ليزيد كي يكون اميرا للعار. كلنا اشتركنا في صنع الانتظار، حتى مجيء التوحش ليمسك بمخالبه الحداثةَ وأنوارها المنكفئة على بساتين المقتدر.. ومدافع الرفض تنهش في مقولاته الابدية منذ ولد لكنه أبى الانصياع لرغبات المتلقين فصار يترنح منتشيا بغطرسته الموروثة، من قبل آباء مجهولي النسب ..

الفلسفة تنتشي طرباً بيومها الكئيب، مكررة أيام الشك المفتعل، وأساور الحكمة تلبسها هذه الأيام، لتكون عروسا في عصر التعاسة تكتب بشغف حول الانتظار وتنسى الفعل وتدين بدين العفة الخلقية في أزمان تمرد الرقميات، وأماكن بيع الحب الخاسر لمروضي عشق الخنوع.. نسينا القاتل وصفقنا كثيرا لصور الشهداء الذين علقنا صورهم ليكونوا خيرَ دليل على درب الانتظار المُهلك. ما الذي نريده اليوم؟ فما نريده لا يكون. وما يريده الآخرون صائر حتما، شاخت حقوقنا الطبيعية التي سطرها جون لوك وهوبز ونظيرهما الفرنسي روسو وتلاشت ملامحها.

لقد احترق كل شيء واستوردنا مشاعر جديدة "سيلكونية" مرقمنة مشفرة، بأرقام الخنوع والانتظار. ونسينا أننا بأمس الحاجة لثقافة الفعل المعزز للسعادة. والحب الذي يتغذى بالاحترام. والقناعات الشخصية المصانة قانونيا. والعيش وفقا لما تريده الأنا بمراعاة الآخر.. لقد انتظرناه كثيرا هذا الذي لا يأبى الحضور، لأنه ينتظرنا على معبد الأقدام لا الانتظار المقيت، فزرادشت نيتشه رتل أناشيده الأنجيلية طمعا لمغادرة الناس الكهوفَ لكنهم يُساقون اليوم كأسراب من الغربان تنهش في كبد السماء!؟ ..

هولوكوست الحداثة دخل بيوتنا واشتركنا معا في صنع البلاهة القيمية، لجيلنا الآيفوني (آيفون) والسامسونجي (سامسونج).. بوابات السعادة رسمها سراب الحريات الرقمية وصارت حروبنا وقحة في إعلان الموت ورايات الاستسلام ترفع على منابر الاكتئاب.