بابلو نيرودا في الغرفة رقم 406

ثقافة 2023/12/27
...

 كامل عويد العامري

في يوم الأحد 23 سبتمبر 1973، بعد اثني عشر يوم من انقلاب أوغوستو بينوشيه، كان كل شيء جاهز. بالنسبة لبابلو نيرودا، فهو على وشك مغادرة البلاد. الفرار بعيد عن واقع نظام يقتل خصومه. على الرغم من معاناته من سرطان البروستاتا، كان يمكن للشاعر السفر. ومع ذلك، توفي في الغرفة 406 في عيادة سانتا ماريا في سانتياغو دي تشيلي بعد أن شعر بألم حاد. ماذا حدث؟ ما هو سبب وفاته؟ هل أغتيل؟ هذه الرواية المثيرة التي تقترب إلى أقصى حد من الحقيقة، نتاج عشر سنوات من العمل، تقدم فاشو-سيغان، الصحفية المحققة، نظرة عميقة في كواليس التحقيق في وفاة بابلو نيرودا وتشيلي في سبعينيات القرن الماضي. كتاب عن بلد يسعى للعدالة، والذي لا يزال يبحث عن المختفين خلال فترة الاستبداد.

في يوم الأحد 23 سبتمبر 1973، كل شيء جاهز. ستقلع الطائرة التي استأجرتها الحكومة المكسيكية غدًا من سانتياغو، تشيلي، والحقائب على وشك أن تحزم، والخبر السار هو أن المجلس العسكري قد منحه الإذن بمغادرة الأرض. بعد  اثني عشر يوماً من انقلاب أوغستو بينوشيه توفي سلفادور الليندي ـ في حين حاصرت المؤسسة العسكرية القصر الرئاسي وأمرته بالاستسلام ـ أقنعته زوجته ماتيلدا أوروتيا بأنه يجب عليه مغادرة البلاد. وقام سفير المكسيك لدى تشيلي بزيارته في المستشفى، الذي رقد فيه منذ بضعة أيام لوضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل النهائية. على الرغم من معاناته من سرطان البروستاتا، لا يزال بابلو نيرودا قادرًا على السفر. ولكن في 23 سبتمبر 1973، أصيب بألم شديد، وتوفيَّ في الغرفة رقم 406 في عيادة سانتا ماريا في سانتياغو، تشيلي. وكان الشاعر هو المريض رقم 189.950 في العيادة التي دخل إليها قبل أربعة أيام. وكان قد احتفل للتو بعيد ميلاده التاسع والستين.
الحقائق مثيرة للقلق. توفيَّ أحد أكبر معارضي بينوشيه بعد اثني عشر يومًا فقط من الانقلاب، عشية مغادرته المزمعة إلى المكسيك وهو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1971،
ما الذي حدث في الغرفة رقم 406 في عيادة سانتا ماريا في 23 سبتمبر 1973؟ وهي من أفضل المؤسسات المشهورة بجودة رعايتها في البلاد. هل قُتل بابلو نيرودا؟ لقد فُتح تحقيق قضائي في عام 2011.تقول الكاتبة: “لقد كنت أعمل على وفاة بابلو نيرودا لمدة عشر سنوات. وفي 26 أبريل 2016 قررت التعامل مع هذا الأمر بعمق. وفي ذلك اليوم أعيد دفن جثة بابلو نيرودا بعد استخراجها من قبرها لأغراض التحقيق. في هذا الكتاب - الذي ليس تحقيقًا للادعاء أو الدفاع - أروي الأيام الأخيرة من حياة الشاعر، وأفك رموز مراحل التحقيق القضائي، واستكشف المناطق الرمادية وأقابل أبطال الرواية، دون تحيز. تم التحقق من كل ما في هذا الكتاب. وكما كتبت الفيلسوفة حنة أرندت: “إن حرية الرأي تصبح مهزلة إذا لم تكن المعلومات حول الحقائق مضمونة، وإذا لم تكن الحقائق نفسها هي موضوع النقاش”.
الأرجنتين، بوليفيا، البرازيل، تشيلي، الإكوادور، باراجواي، بيرو، أوروغواي... في كل هذه البلدان، اعتقل الرجال والنساء المعارضون للاستبداد اليميني في السبعينيات، أو اغتصابهم، أو تعذيبهم، أو قتلهم، أو دفنهم في مقابر جماعية، أو حتى أُلقي بهم في البحر، وثقلت الأجساد بأووزان حتى لا يعثر عليهم أبدًا.في عام 2009، أجريت مقابلة لأول مرة مع إحدى ضحايا دكتاتورية أمريكا اللاتينية، في أوروغواي. تدعى ستيلا تحدثت عن الاعتداء الجنسي والفئران التي أُطلقت في زنزانتها في يوم دورتها الشهرية. كان هذا الرعب الكبير يثير المخاوف في نفسي. وبعد خمس سنوات، في تشيلي، أصدرت تقريراً عن نساء اغتصبهن راعي ألماني في منزل تحول إلى سجن سري في عهد بينوشيه بين عامي 1973 و1990، قُتل أو اختفى ما لا يقل عن 3227 شخصًا في تشيلي، وتعرض 38254 للتعذيب، وأجبر عشرات الآلاف على النزوح إلى المنفى. وفي الوقت الحالي، لا يزال أكثر من 1100 شخص في عداد المفقودين.
فكيف يمكن لأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 1973 ـ مع انقلاب بينوشيه، ووفاة  سلفادور الليندي وبدء التعذيب الجماعي للمعارضينـ أن تحكي قصتين مختلفتين؟ وكم عدد العائلات التي ستظل تبحث عن جثث أحبائها الذين اختفوا بين عامي 1973 و1990؟
بعد خمسين عامًا من الانقلاب، لم تتم تسوية الأمور بعد. ويعمل ثلاثة عشر قاضيا في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان خلال فترة الحكم الدكتاتوري. القاضية التي تحقق حاليًا في قضية نيرودا، باولا بلازا، لديها مئة ملف على مكتبها.
الكتاب والمحامون والقضاة والجمعيات والأسر.. الآلاف يبحثون عن الحقيقة حول هذه الجرائم ضد الإنسانية. تعقب القرائن، والبحث عن الشهود، إنها الحياة اليومية لأقارب بابلو نيرودا، وجزء كامل من السكان التشيليين الذين يتدخل ماضيهم في الحاضر. (لا نسيان ولا مغفرة) هي الصرخة التي أطلقها التشيليين ضد ما أسموه «إرهاب الدولة» في الفترة من عام 1973 إلى عام 1990.
في هذا العمل، سأقوم بتفصيل التحقيقات التي أجريت منذ عام 2011 – سماع الشهود، واستخراج  الشاعر من قبره، وإرسال أجزاء من جسده إلى أرقى المختبرات في العالم من أجل توضيح أسباب وفاته. سيأخذنا هذا التحقيق إلى كندا وإسبانيا، وأيضًا إلى فرنسا حيث عاش بابلو نيرودا. ما الذي حدث  لبابلو نيرودا؟ ماذا حدث في الغرفة رقم 406 في عيادة سانتا ماريا في 23 سبتمبر 1973؟ “بدأ حظر التجول منذ ساعات قليلة. وتقوم الدوريات العسكرية سيرا على الأقدام، في طائرات هليكوبتر، في الدبابات. إنهم يمشطون العاصمة والبلاد بأكملها بحثًا عمّن يسمونهم “الفئران”. بعض هؤلاء الأشخاص، الذين يعتبرونهم مسؤولين عن “السرطان الماركسي” الذي من شأنه أن يسبب “الغرغرينا” للبلاد، محتجزون بالفعل في الملعب الوطني. في هذه المنطقة المسيجة التي  تتسع لـ 80 ألف شخص، يبذلون كل ما في وسعهم لانتزاع الاعترافات منهم. أثناء الاستجوابات القاسية، تُكسر العظام، وتُقطع الأصابع، ويُغتصب الرجال والنساء. ويعدم المتمردون. بعد أحد عشر يومًا من الانقلاب، وجد 7000 شخص أنفسهم محرومين من حريتهم في الملعب الوطني. على سبيل المثال، اغتيل المغني فيكتور جارا بعد أربعة أيام من الانقلاب، في 15 سبتمبر 1973، في ملعب تشيلي، الذي أعيدت تسميته الآن بملعب فيكتور-جارا. عُثر على جثته مثقوبة بـ 44 رصاصة.لقد انزعج أوغستو بينوشيه في عام 1970 من وصول سلفادور الليندي إلى السلطة. وفي ليلة فوز المرشح الاشتراكي في الانتخابات، كان قائدًا للوحدة العسكرية السادسة  المتمركزة في إيكيكي، شمال البلاد، وقال لضباط القيادة العامة: “شعب تشيلي لا يعرف الطريق الذي يسلكه. لقد خُدع ويبدو أنه لا يعلم إلى أين ستقودنا الماركسية - اللينينية أيَّها الضباط الأعزاء، أعتقد أن تشيلي ستصبح في النهاية تابعًا لروسيا السوفيتية. [...] مسيرتي المهنية تدخل أيامها الأخيرة. مشكلة إنقاذ تشيلي ستكون بين أيديكم. أعان الله مصير وطننا »
في عام 1972، بدأ أوغوستو بينوشيه في التفكير في تنفيذ انقلاب. في بداية العام، وبعد تعيينه حديثًا كرئيس للأركان العامة للجيش، أمر مدير المخابرات، بإعداد تقرير حول “الأمن الوطني” في البلاد، وبدأ في شهر أبريل “تحليل الاستنتاجات” من هذا الوثيقة “بمشاركة الأشخاص الذين يحظون بأكبر قدر من الثقة” في محيطه.في 11 سبتمبر 1973، خلال قصف القصر الرئاسي الذي أمر به أوغوستو بينوشيه وقتها كان قائدًا للجيش البري، كان لدى سلفادور الليندي خيار بين الاستسلام أو الموت. اختار الخيار الثاني بإطلاق رصاصة في ذقنه.
**
وهو مستلق على سرير في غرفة بالطابق الرابع في عيادة خاصة مشهورة في سانتياغو، هل شعر بابلو نيرودا بالأمان في 23 سبتمبر 1973؟ الكاتب العظيم، مؤلف مجموعة الشعر الشهيرة “عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة”، هو في نظر الحكومة العسكرية في المقام الأول ناشط شيوعي مبكر وعضو سابق في مجلس الشيوخ عانى من االإختباء والمنفى في الأربعينيات.بالنسبة لبابلو نيرودا، بدأت المتاعب بعد ثلاثة أيام من الانقلاب، في 14 سبتمبر 1973. فقد داهمت المنزل الذي يشاركه مع زوجته  مجموعة من العسكريين. وفي سيرتها الذاتية “حياتي مع بابلو نيرودا”، التي نُشرت بعد وفاته عام 1986، تتذكر أرملة الشاعر، ماتيلدا أوروتيا، هؤلاء الجنود الذين كانوا ينظرون إلى كل شيء في المنزل بفضول كبير، دون الجرأة على لمس أي شيء. وكأنهم، على الرغم من كل شيء، يشعرون بنوع من الاحترام للفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1971. وفجأة، ينقر أحد الجنود على الأرض بقوة بحذائه، “هل توجد في منزلك ممرات تحت الأرض؟ هل يوجد ممرات تحت الأرض؟”. “. ماتيلدا تبقى صامتة. هل يتصور أن هناك من الشيوعيين المسلحين يختبئون تحت الأرضية ويستعدون للانقضاض عليهم بدم بارد؟
وكان الجيش التشيلي قد نشر فكرة أن حكومة سلفادور الليندي كانت توزع الأسلحة بين الناشطين اليساريين لقتل الجنود والمعارضين والصحفيين على نطاق واسع. كان بعض الجنود وجزء كبير من السكان يؤمنون إيمانًا راسخًا بهذه الفكرة السخيفة، والتي  كانت بارزة في عدة عناوين صحفية. اسمها: الخطة Z، وهي إحدى الأساطير المؤسسة للديكتاتورية لتبرير الاستيلاء على السلطة بالنار والدم. يمكن تلخيص نظرية الخطة Z على النحو التالي: “إما نحن وإما هم”. ومن أجل إقناع الرأي العام، أعلن أوغستو بينوشيه نفسه خلال مقابلة أجريت معه عام 1973 أنه يستطيع “التأكيد” على أن هذه الخطة “تم تطويرها من قبل أجانب ذوي خبرة في هذا الشأن”. وقد اعترف فيديريكو ويلوغبي، المتحدث الأول باسم المجلس العسكري، في عام 2003 أن الخطة Z كانت، لا أكثر ولا أقل، “سلاحًا ملفقا للحرب النفسية”.
في هذا السياق، يكون بابلو نيرودا متوترًا ومحمومًا، كما لو كان يتلقى سلسلة من الأخبار السيئة منذ انقلاب الحكومة مثل طعنات الخنجر. في 18 سبتمبر، يحتفل الشيليون بالعيد الوطني. مع عودة الأيام المشمسة، وقد اعتاد الشيليون التجمع حول حفلات الشواء ورقص الكويكا (الرقص التقليدي) في قاعات كبيرة تسمى “فونداس” مزينة بالبالونات والرايات الزرقاء والبيضاء والحمراء، ألوان علم تشيلي. لكن هذا العيد - يحمل طعم المرارة لأيام الحداد. تشرح ماتيلدا في ذكرياتها أنها اضطرت إلى استدعاء طبيب زوجها، روبرتو فارغاس سالازار. ووعدها بإرسال سيارة إسعاف في اليوم التالي لنقل بابلو إلى عيادة ووضعه في مأمن. انتهت زيارات الجيش الفجائية. وتأمل ماتيلدا أن تتمكن قافلتهم - المكونة من سيارة الإسعاف وسيارة سائقهم، مانويل أرايا - من عبور نقاط التفتيش العديدة التي تحيط بالعاصمة وضواحيها من دون أن توقفها الشرطة.
بين مسافة 115 كيلومترًا التي تفصل منزل نيرودا عن العيادة، جرى تفتيش سيارة الإسعاف وسيارة مانويل عدة مرات. وهناك العديد من حواجز الطرق التي أقامتها الشرطة، مثل تلك الموجودة عند مخرج مدينة مليبيلا.كان رجال الشرطة يطلبون منهم أوراقهم، ومن أين أتوا وإلى أين ذاهبون. تمسك ماتيلد بيد بابلو وهو مستلق في الإسعاف، عندما تأمرها السلطات بالنزول. لا تصدق. كيف يمكنهم قول ذلك لي؟ ألا يرون أن بابلو مريض وأنه بحاجة إلى قوتي؟ ومع ذلك، تمتثل. بمجرد انتهاء تفتيش رجال الشرطة، وبينما تعود إلى السيارة، ترى دموعًا، مثل الكرات، في عيني زوجها. ليس لدى ماتيلدا الوقت لتضيع في أفكارها، فالشرطة تظهر نية اعتقال مانويل أرايا، وهو يقف أمام سيارته، ويديه على رقبته. وبفضل تدخل نيرودا بالكلمة، يبقى حرًا. هذه المرة. استغرقت الرحلة أكثر من خمس ساعات، أي ثلاث مرات الوقت المعتاد.في يوم الخميس 20 سبتمبر 1973، كان نيرودا مضطربًا للغاية. لقد رفض دعوة غونزالو مارتينيز كوربالا، سفير المكسيك في تشيلي، لزيارة مكسيكو سيتي. تعتقد ماتيلدا أن البقاء وسط هذا الغضب ليس فكرة جيدة. لذا، ومن أجل إقناع زوجها - المرتبط بشدة بتشيلي - بالمغادرة، أسرت له بأن منزلهم في سانتياغو قد تعرض للنهب، ودمر جزئيًا، وقد يكون من الصعب العثور على الدواء لعلاج سرطان البروستاتا. يستمع إليها بابلو، وهو متشكك في البداية، ثم يقبل. “سأعود على أية حال. [...] هذا بلدنا وهذا مكاني.» ولكن قبل المغادرة، يريد بابلو نيرودا من ماتيلدا أن تأتي له  ببعض الكتب التي يهتم بها. تتوجه مع مانويل أرايا إلى المنزل، وتترك بابلو وحده في العيادة.
في 22 سبتمبر 1973، بينما كانت مشغولة بإعداد الأمتعة في الطابق الأول، أُبلغت ماتيلدا أن بابلو قد اتصل للتو بنزل سانتا إيلينا المجاور - ولم يكن المنزل به هاتف. “عودي فورا، لا أستطيع أن أقول لك المزيد.” »... أخذت كتابًا أخيرًا وأغلقت الحقائب، بينما تندفع ماتيلدا إلى جانب السائق. “ اسرع - بسرعة ! نحن بحاجة للوصول إلى هناك في أسرع وقت ممكن! »، تكرر بشكل محموم على طول الطريق الذي بدا لها لا نهاية له.
كان بابلو مضطربا. يبدو أنه متأثر بشيء ما، كما لو أنه رأى شبحًا للتو. “”من الرائع ألا تعلم شيئًا!” تحدث بابلو إلى أصدقائه: إنهم يقتلون الناس ويقطعون الجثث! “. قالوا لها أن تلتزم  الصمت.  علم بابلو الآن أن فيكتور جارا قد مات... وبجوار العيادة، شاهدت جثثًا تطفو في نهر مابوتشو. كان الجنود يعدمون  المعارضين على شاطئ النهر ويقذفون الجثث فيه للتخلص منها. لقد أصبحت هذه عادة. يحمل النهر الذي ينبع من  سفوح سلسلة جبال الأنديز عشرات الموتى، الذين يحاول الناس سحبهم  إلى الضفة باستخدام العصي. وكان بابلو قد أهدى قصيدة لهذا النهر في عام 1950. وفكرت ماتيلدا لو كان يعلم ذلك.
فجأة يرفع بابلو يديه عن يديها. يأخذ بيجامته بكلتا يديه وهو يصرخ بصوت عالٍ: “ أنهم يطلقون النار عليهم جميعًا!” يطلقون النار عليهم جميعا! “، تقرع ماتيلدا الجرس بجوار السرير بشكل محموم. تصل ممرضة وتحقنه بمهدئ. يغفو، تعود ماتيلدا إلى رشدها. إنها تفكر في مانويل أرايا. أين هو ؟ كان عليه أن يوقف السيارة وينضم إليهم. ولم تره منذ نزلت من السيارة التي نقلتهم إلى العيادة في 22 سبتمبر.
في اليوم التالي بعد الظهر، يوم الأحد 23 سبتمبر، بابلو ما زال نائمًا. عندما بدأ يتحرك، ظنت ماتيلدا أنه أخيرًا خرج من غيبوبة النوم التي تسببها الدواء الذي تناوله في اليوم السابق. انتابت جسده ارتعاشات تمتد إلى وجهه ثم رأسه، حيث بدأ يعاني من تشنجات. اقتربت، لكن بابلو لم يستيقظ، لقد توفي. كتب الأطباء في شهادة الوفاة أن بابلو نيرودا توفي بسبب سرطان البروستاتا وانتشار الخلايا السرطانية ووَرم ثانوي ونحافة ناتجة عن سوء التغذية. مانويل أرايا هو الشاهد الرئيسي الآخر على الأيام الأخيرة لبابلو نيرودا. ومثل ماتيلدا، يتذكر جيدًا كيف إن بابلو ذهب في يوم الأربعاء 19 سبتمبر/أيلول، “ليس لعلاج السرطان - كان في صحة جيدة للغاية - ولكن من أجل سلامته”. مانويل يصر على صحة الكاتب. فهو قبل شهر من وفاته، في أغسطس 1973، كان يسافر يوميًا إلى منتجعات سان أنطونيو وألغاروبو وإل كويسكو وميراسول القريبة من منزله. وبحسب روايته – لم تكن ماتيلدا ولا هو في العيادة في اليوم الذي سبق وفاته، فقد ذهبا للمنزل لجلب بعض الأشياء التي طلبها نيرودا قبل مغادرته إلى المكسيك.. في ذلك اليوم، حوالي الساعة الرابعة مساءً، أبلغهم فندق سانتا إيلينا، المجاور للمنزل، أن بابلو قد اتصل للتو. ويطلب منهم العودة على الفور. ويقول مانويل: “ إن بابلو  قد ابلغهم  “إن طبيباً أيقظه وأعطاه حقنة في معدته”.
«ماذا يحدث يا دون بابلو؟»
- لقد حُقنت بشيء ما، وأنا أحترق من الداخل. »
وفي هذه الأثناء، يدخل طبيب شاب ذو شعر أشقر وعيون زرقاء ولديه شارب. يحث مانويل على شراء دواء يعتاد نيرودا تناوله خلال “نوبات النقرس” - تلك الهجمات الالتهابية المفصلية التي يعاني منها باستمرار.وبالرغم من أن مانويل يرفض في البداية ألا أن الطبيب يقنعه بالذهاب لشراء الدواء من خارج العيادة، بحجة عدم توفره فيها. لقد وجد طلب الطبيب غريبا. فالصيدلية تبعد أربعة كيلومترات غرب سانتياغو، ولكنه ذهب مطمئنا، لأن ماتيلدا إلى جانب بابلو. ينهار صفاؤه عندما تعترضه سيارتان عند زاوية شارعي بلماسيدا وفيفاسيتا. كل شيء يحدث بسرعة كبيرة. أمره رجال يرتدون ملابس مدنية بالخروج من سيارته، وانهالت عليه الضربات دون تفسير. ثم يأخذه هؤلاء الرجال إلى أقرب مركز شرطة، حيث سيقضي مانويل بضع ساعات، بين الاستجواب والعنف الجسدي. في الساعة 10:30 مساءً، يلفظ بابلو نيرودا أنفاسه الأخيرة. وفي حوالي منتصف الليل يقودون مانويل إلى الملعب الوطني حيث يحتجز آلاف الرجال والنساء وبتعرض للتعذيب والاستجواب مرة أخرى، بعد أسبوع تقريبًا من اعتقاله، علم مانويل بوفاة بابلو نيرودا من الكاردينال راؤول سيلفا هنريكيز، الذي جاء لتقديم الدعم للمحتجزين. منذ ذلك اليوم، لم تفارق مانويل قناعة واحدة: وهي إن بابلو نيرودا، قد اغتيل.
أمضى حوالي ثلاثين يومًا في الملعب الوطني، قبل أن يُطرد في منتصف الليل، عند الساعة الواحدة صباحًا، وكان بالكاد يستطيع الوقوف. حظر التجوال يستمر حتى السادسة صباحاً وأي شخص يسير في الشارع إما يُطلق عليه الرصاص – ومن المحتمل أن يُطلق عليه الرصاص – أو يُلقى القبض عليه. ويدين مانويل بخلاصه للجنود الذين أخفوه عند مدخل الملعب حتى انتهاء حظر التجول.خلال الاثني عشر يومًا بين انقلاب أوغستو بينوشيه ووفاة بابلو نيرودا، جرى اعتقال الصحفيين وإحراق الكتب. بعد مرور أربعين عاماً على حرق الكتب في ألمانيا النازية، تلتهم أعمال كارل ماركس مرة أخرى نيران نظام يمقت الاشتراكية والماركسية. القصة نفسها، دائمًا... وهكذا يفتخر جندي بحرق كتب لينين، وفيدل كاسترو، و”تشي” جيفارا... وفي أرشيف بالفيديو، كان هناك غلاف نصف محترق لكتاب عن كومونة
 باريس.