نوري إسكندر .. الصوفيَّة والعمق الإنساني

منصة 2024/01/02
...

 علي العقباني

نوري إسكندر عالم ومؤلف ومجدد موسيقي سوري بارز، ومن أعلام المشهد الموسيقي السوري، الذين تركوا علامة فارقة في الحياة الموسيقية، إذ كان من القلائل المختصين بالموسيقى السريانية الدينية والشعبية منها، وأحد المجددين في الأغاني الشعبية القديمة في مزج استثنائي جعله من أبرز المشتغلين بهذا الشأن في الأوساط الموسيقية المعاصرة، وشكلت مكانته المرموقة المهمة، نتيجة شغفه بدمج الموسيقى القائمة على المقام مع التقنيات والأفكار الكلاسيكية والمعاصرة.
وُلد اسكندر في مدينة دير الزور في الشمال الشرقي السوري لعائلة آشورية من مدينة أورفا (التركية)، بينما تذكر بعض المصادر إنه ولِد في مدينة حلب السورية، عام 1938، وقد بدأ مشواره الموسيقي في سن مبكرة للغاية عندما انضم إلى فرقة سريانية أرثوذكسية، الأمر الذي دفعه لدراسة الموسيقى، والانشغال بها.
كبر إسكندر وترعرع بين أحضان البيئة الثقافية الحلبية، ونمت لديه مداركُه الفنيّة النابعة من معين ألحان كنيسته السريانية، لتتغذى مواهبُه من هذا النبع الغني والمغرق في الحياة، على مستوى مشاركاته منذ صباه في الخدمة الكنسية، لتمتلئ نفسه وتتشبع تدريجياً بهذا الجنس العريق من الموسيقى.
عند انتهائه من مرحلة الثانوية التحق بالدراسة الموسيقية العليا في المعهد العالي للموسيقى العربية في القاهرة، حيث درس علوم الموسيقى وفنونها الأدائية وبخاصة على يد أستاذه الراحل جورج ميشيل، وتخرج في المعهد حائزاً على درجة البكالوريوس. ليعود بعدها إلى حلب معلِّماً فأستاذاً للموسيقى فيها، وتولّى إدارة المعهد الموسيقي إبّان تأسيسه في حلب، المدينة التي يسكنها بشكل دائم. جعل من الموسيقى شغلَه الشاغل.
يعتبر الكثير من نقاد الموسيقى والتاريخيين نوري اسكندر الحافظ والمؤرشف والحاضن الرئيس والأساسي للموسيقى السريانية، حيث تظهر أهمية ما فعله اسكندر للباحثين في تاريخ الموسيقى الشرقية نفسها، اذ تشكّل الموسيقى السريانية عمودًا من أعمدة هذه الموسيقى لا يمكن تجاهله. بل ثمة قدْرٌ واضحٌ من الموسيقى العربية الشرقية دخلت فيها مؤثرات الموسيقى السريانية، وحفظها للأجيال القادمة ليس فقط من خلال إنشاء العديد من الجوقات الناجحة ولكن أيضًا بتأليف مجموعة كبيرة من الأغاني الشعبية السريانية، بدءًا بألحان مستقاة من الفولكلور السرياني القديمة، فكتب فيها أعمالاً جميلة، من بينها (أو حبيبو حبيبو) و (زيلقي فرسي) و (لوتيحفوخ)، وغيرها.  
وإلى جانب مسيرته الموسيقية اشتهر إسكندر أيضًا بأبحاثه المتعمقة في الموسيقى وعلم الموسيقى التي اعتبرتها اليونسكو مسلكًا جادًا لفهم الموسيقى السريانية والحفاظ عليها. وخلال أكثر من أربعة عقود عمل على تحليل الألحان السريانية وتدوينها وأرشفتها وعزفها، وقد تجلى جهده هذا في تأليف كتاب علمي بتكليف من اليونسكو يغطي الموسيقى السريانية الدينية والتقليدية نُشر في التسعينيات من القرن الماضي.
قدم اسكندر الكثير من الموسيقى الصوفية العذبة التي تهذّب النفس وتعبّر عن العمق الإنساني والوجداني إضافة إلى العديد من الأعمال الموسيقية الوطنية التي تجسّد وحدة الرؤية بين الإسلام والمسيحية.
اشتغل اسكندر طويلاً على كتابة موسيقى عربية حديثة تواكب التطور الذي رافق الموسيقى الغربية، لجهة تعدد الأصوات (البوليفونيا) والحوار بين الآلات الموسيقية وخلخلة القوالب الجاهزة، وألف العديد من الأعمال المهمة ومنها (الثلاثي الوتري، كنشرتو العود وكنشرتو التشيلو)، وكتب الموسيقى التصويرية للسلسلة الوثائقية (أعمدة النور، وفيلم مار مارون)، وألف موسيقى المسرحية اليونانية (باخوسيات ليروبيديس)، وقدم حفلات موسيقية عدة في السويد.رحل نوري إسكندر في 25- 12- 2023 بعد رحلة طويلة مع الفن والحياة غير عابئ بالشهرة وهو الذي عرفه الآخرون أكثر من أبناء بلده عاشقا للموسيقى ومجدداً ومحافظاً لتراثها الموسيقي.