الافتراس في مسرحيَّة عام 1936

منصة 2024/01/03
...

 نجاح الجبيلي 


"فجأة في الصيف الماضي" لتنيسي وليمز (1911 - 1983). مسرحية قصيرة من فصل واحد وأربعة مشاهد، وقد ألفها وليمز مع مسرحية أخرى بعنوان "المسكوت عنهُ" التي هي من فصل واحد أيضاً وصدرتا معاً تحت عنوان موحد هو "جاردن دستركت" نسبة إلى منطقة بهذا الاسم في مدينة نيوأورليانز بولاية لويزيانا والتي تدور أحداث المسرحيتين فيها.  

تدور أحداث المسرحية التي صدرت مؤخرا للكاتب والمترجم محمد سهيل أحمد عام 1936، إذ دعت السيدة فايلت فينابل، وهي أرملة اجتماعية مسنة من أسرة محليّة بارزة، طبيباً إلى منزلها. 

تتحدث بحنين عن ابنها سباستيان، الشاعر، الذي توفي في ظروف غامضة في إسبانيا في الصيف الماضي. خلال محادثتهما، عرضت تقديم تبرع سخي لدعم أبحاث الطبيب النفسي لو أجرى عملية جراحية لفص دماغ كاثرين، ابنة أختها، التي جرى احتجازها في مصحة عقلية خاصة في سانت ماري، على نفقتها منذ عودتها إلى أمريكا. 

وحصرت فينابل على "جعلها مسالمة" مرة واحدة وإلى الأبد. 

كل ذلك، بينما تستمر في الثرثرة حول موت سيباستيان العنيف وتحطيم سمعة ابنها من خلال التلميح إلى انحرافه.

وصلت كاثرين بصحبة والدتها وشقيقها. كانوا حريصين على كبت روايتها للأحداث، إذ إن فينابل تهدد بالاحتفاظ بوصية سيباستيان في الوصية حتى تكون مصدّقة، وهو أمر لا تستطيع أسرة كاثرين تحديه، لكن الطبيب يحقن كاثرين بمادة مصل الحقيقة وتشرع في تقديم رواية فاضحة عن انحلال سيباستيان الأخلاقي والأحداث التي أدت إلى وفاته، وكيف استخدمها لجلب الشباب لاستغلاله،  وكيف تم الاعتداء عليه وتشويهه، وافتراسه من قبل حشد من الأطفال الجائعين في الشارع الذين التهموا جسده. 

تندفع السيدة فينابل نحو كاثرين لكن الطبيب منعها من ضربها بعصاها، وأخرجها من المسرح وهي تصرخ بالطبيب "اقطع هذه القصة البشعة من دماغها!".

 وبعيداً عن اقتناعه بجنون كاثرين، اختتم الطبيب المسرحية بالقول إنه يعتقد أن قصتها يمكن أن تكون حقيقية.

 منذ صفحته الأولى، بدا النص غنيّاً بالتفاصيل الرمزيّة المفتوحة على تأويلات عدة. 

يربط "القصر ذو الطراز القوطي الفيكتوري" المسرحية على الفور بالأدب القوطي الجنوبي، الذي يشترك معه في العديد من الخصائص.   

وتقدم "حديقة الغابة" لسيباستيان، بألوانها "العنيفة" وأصوات "الوحوش والثعابين والطيور، ذات الطبيعة الوحشية صور "الافتراس" التي تتخلل الكثير من حوار المسرحية. 

وقد جرى تفسيرها بشكل مختلف على أنها تشير إلى العنف الكامن في سيباستيان نفسه؛ وتصوير محاولات الحداثة العبثية "لاحتواء" دوافعها الوراثيّة بعيدة الأصل؛ والوقوف من أجل رؤية "داروينية" قاتمة للعالم تساوي بين "الماضي البدائي والحاضر المتمدن ظاهرياً".

يمكن أن يدلّ نبات مصيدة فينوس المذكور في الخطاب الافتتاحي للمسرحية على تصور سيباستيان على أنه الابن "الجائع للجسد" إذ إنّ هذا النبات يصطاد فرائسه - بشكل رئيسي الحشرات والعناكب - بهيكل تثبيت تشبه "الفك"، والتي تتكوّن من الجزء الطرفي من كل ورقة من أوراق النبات؛ عندما تتلامس حشرة مع الأوراق المفتوحة، فإنَّ الاهتزازات الصادرة عن حركات الفريسة تؤدي في النهاية إلى إغلاق "الفكين" وتحيط بالفريسة بالكامل. وعلى أنّها تصور "الإماتة المغرية" المخبّأة تحت "الغشاء المتحضر"  للسيدة فينابل، بينما هي "تتشبّث بشدة بالحياة" في بيتها المستنبت الدفيء.  

كما ترد "استعارة مشتركة لفايلت وسيباستيان، اللذين يلتهمان ويدمران الناس من حولهما"؛ كما ترمز إلى قسوة الطبيعة، مثل "الطيور آكلة اللحم" في جزر غالاباغوس؛ وكذلك تشير إلى "حالة بدائية من الرغبة" وما إلى ذلك.

أشار ويليامز إلى الرموز على أنّها "اللغة الطبيعيَّة للدراما"  و"أنقى لغة في المسرحيات". ومن ثمَّ فإنّ الغموض الناشئ عن وفرة الرمزيّة ليس غريباً على جمهوره. لكن ما يشكل صعوبة فريدة لنقاد مسرحية "فجأة في الصيف الماضي" هو غياب بطل الرواية. وهو تناقض لا يمكن حله. 

على الرغم من الصعوبات، فإنَّ الصور المتكررة للافتراس وأكل لحوم البشر في المسرحية تشير إلى تصريح كاثرين الساخر كمفتاح لفهم نوايا الكاتب المسرحي: "نحن جميعاً نلتهم بعضنا البعض"، كما تقول في المشهد الرابع، "وهذا ما نفكر فيه كحب"، وبناءً على ذلك، علق ويليامز في عدد من المناسبات بأن موت سيباستيان كان يهدف إلى إظهار كيف: أنّ الإنسان يلتهم الإنسان بالمعنى المجازي. يتغذى على إخوانه من المخلوقات من دون مبرر. في الواقع، الحيوانات تفعل ذلك من أجل البقاء، بدافع الجوع... استخدمُ هذه الاستعارة [أكل لحوم البشر] للتعبير عن اشمئزازي من هذه الخاصية المميزة للإنسان، الطريقة التي يأكل بها الناس بعضهم البعض من دون ضمير...".


---

حوار مع تنيسي وليمز- 1986 تحرير: ألبرت دفلن- دار نشر جامعة المسيسيبي (بالإنكليزية).