هل يُعبر الخط العربي عن همومنا؟

منصة 2024/01/07
...

 مرتضى الجصاني


إن مأزق الخط العربي كفن ورافد معرفي هو مركب ناتج عن تعقيد في فهمه بصورة عامة، وخاصة من المشتغلين بالثقافة والفنون. هذه الرؤية الضبابية التي تخيم على مشهد الخط العربي كفن هي نتيجة تقصير من الخطاطين والعاملين بالمجال الحروفي بصورة عامة، لأن الخط العربي وفنونه يعاني من ندرة النقد في أعماله وتطويره، حتى على المستوى النظري، الأمر الذي جعل هذا الفن جامداً حتى عد على الفنون الحرفية اليدوية، بينما هو بعيد عن ذلك، وأن تشابه الشكل الخارجي له مع الفنون الحرفية، وإن كان يعتمد على الاتقان بدل الابتكار والإبداع، لكنه يمتلك تلك الطاقة السحرية الخفية التي تجعله فنا حقيقيا، وحاله حال بقية الفنون، والمعاناة من النظرة الدونية من مجالات الحياة العلمية على وجه الخصوص. لكن وضع الخط العربي أكثر سوءا لأنه يعاني من جهل المثقف والفنان، ومن جهل العامة من جهة أخرى. 

إن جهل المثقف الذي يبدو مركبا، جعل الخط العربي يفضي إلى مساحات حرفية قاصداً ذلك من دون اطلاع وفهم حقيقي، وقد قرأت كثيرا في كتابات من يعدون أنفسهم مشتغلين بالنقد. صحيح إن الخط العربي فن معقد يعتمد أساساً على الإحساس بالحرف والخيال، لكنه فن حقيقي له مقومات حقيقية، وبالنتيجة هو قيمة معرفية وجمالية، لأنه فن جامع يعبر عن اللغة وشكلها. إذن كيف تكون المعرفة غير التعبير عن اللغة بأتم صورتها؟.

لكن لأجل أن نعرف مكانة الخط العربي في المعرفة، علينا أن نجهد أنفسنا في البحث عن القيم المعرفية، وأن نعرف فن الخط العربي على وفق هذه القيم، وأن نغادر فكرة فن الخط العربي (فن تجويد الحروف)، فهذا جهل محض لا يمت إلى إمكانية الخط العربي في التعبير الفني، ورغم أن هذه الفكرة -أي فكرة فن تجويد الحرف- هو ما درج عليه أهل الخط في التعبير عن الخط العربي، وبالنتيجة تشبعت هذه الفكرة وتغلغلت إلى عقول المشتغلين بالفن التشكيلي والنقد الفني من دون دراية أو دراسة حقيقية لفن الخط، وهذا يحتاج إلى باحث خطاط أولا، وليس أي خطاط، فلا بد أن يكون خطاطا فنانا عارفاً بتفاصيل وبحر الخط العربي وتأويلاته الأصيلة. 

قيل في تعريف المعرفة من ناحية فلسفية هي إمعان التفكير في الأسباب المخفية والبعيدة، فإذا كانت المعرفة الفلسفية إضافة للفكر الإنساني، لا شك سيكون الخط العربي رافدا حقيقياً لهذه المعرفة، ذلك لأنه تعبيرٌ عن بعد آخر بعد النص المكتوب، بعدا بصرياً وجماليا يمكن له أن يعبر عن قيمة النص كفكرة إنسانية بعيدة عن الدين ومقارباته. هذا في حال اللوحة المكتوبة على وفق أصول الخط العربي المتعارف عليها من أكابر الخطاطين، وهو تقليد فني شديد الحرص في الحفاظ على أصول هذا الفن. وهو ما جعل الخط العربي فنا يحافظ على جمالياته وتأويلاته الكلاسيكية، التي تطورت لتكون لوحات خطية تعبيرية تتخذ مسارات من داخل الخط العربي من أجل التعبير البصري للنص وهذا المسار تطور كثيراً كقيمة فنية.

"هل من الممكن أن يُعبر الخط العربي عن همومنا؟".. على الرغم من أن السؤال يبدو غريباً بعض الشيء لكنه وارد وضروري أيضا إذا اعتبرنا الخط العربي أحد عناصر الفن، ومن المؤسف ألا نجد ما نستشهد به كي نثبت هذا الادعاء كون الخط العربي منطقة غير مشغولة نقديا إلا النزر اليسير هنا وهناك، لكن بصورة عامة فإن الخط العربي له القدرة على التعبير خارج النص المقدس، فهو قادر على صياغة العمل جماليا في التعبير عن إحساس الفنان من حزن وحب ونشوة وغضب وغير ذلك كما له القدرة على التعبير عن هموم إنسانية كبيرة أو تساؤلات وجودية، فهو يتعاطى مع النص من جانب خفي وتأويلي وبالتالي هو يستطيع أن يضع أسئلة معرفية بشكل مختزل ومكثف ومن وجهة نظره كفن مستقل بذاته له مقوماته التعبيرية، وكثيرا نجد أن الخط العربي فن مشغول بالتعبير عن دواخل الإنسان، أو لنقل له القدرة أكثر على ذلك على الرغم من التجارب النادرة في الخط العربي لكنها موجودة إذن بالنتيجة نجد فنا تعبيريا، سواء من خلال النص الكلاسيكي أو من خلال اشتغالات تحاول نقل الخط العربي من المطلق إلى الموضوع بغض النظر عن شكل الاستخدام للخط لكن بالدرجة الأولى أن يكون خطا وليس كتابة أو رسم الحرف. 

يتوهم كثير من الفنانين والمثقفين وبالنتيجة غيرهم كذلك، بأن الخط العربي هو فن تجويد الحرف وكتابة النصوص الدينية بشكل جميل وهذا ناتج عن جهل كبير -كما أسلفنا- يتمكن الخط العربي من التعبير عن مشكلات يومية غير مرتبطة بالعاطفة من الأساس، كما يتمكن من التعبير عن فلسفة خاصة للفنان. 

أقول هذا ليس من باب حشر الخط العربي في مضامين لا تخصه، بل لأنه يمتلك فعلا هذه الخصائص لكنها مغيبة تماما، فالخط العربي وسيلة لقول أي شيء ووسيلة ذات معنى وهو الشكل الفني للكتابة وحصره في خانة المقدس ليس سوى وهم، حيث يمتد وجودة وتطوره إلى عصور سحيقة في القدم، لكنه توهج ونضج عن طريق النص المقدس وهذا ليس مشكلة، المشكلة أن يتحول هذا الفن إلى قوالب مقدسة من يحاول الاشتغال عليها تناله لعنة التكفير والزندقة. وضمن هذا المجال كانت هناك تجارب رائدة ولها اشتغال رائع في بداية النصف الثاني من القرن العشرين تجارب لها قيمة فنية وتجديدية -إذا صح القول- وهي تشتغل ضمن دائرة الخط العربي وليس الرسومات الكتابية على رأس هذه التجارب، تجربة الفنان الخطاط محمد سعيد الصگار، والفنان الخطاط خليل الزهاوي، حيث تناولت كلا التجربتين مواضيع مختلفة بعضها متعلق في البعد الصوفي والروحاني التي أبدع فيها الزهاوي، وبعضها تناول نصوصًا شعرية وحكمًا مختلفة من كتب مختلفة التي أسس لها الفنان الصگار، وبعد ذلك أيضا هناك تجارب مهمة.  ما أود ذكره هنا أن موضوع التصاق الدين بالخط العربي تطور في أزمان متأخرة حتى نشأت علاقة مركبة يصعب تفكيكها، لكنه أي فن الخط فن له القدرة على قول أشياء كثيرة لما يمتلك من طواعية وديناميكية كافية للتعبير عن الحياة، عن العاطفة، عن الهموم التي يصعب البوح بها، عن موضوع ما.