قصائد هايكو في فيلم {الأيام العظيمة}

ثقافة 2024/01/08
...

 باسم سليمان

كيف يمكن الحصول على السعادة من الأشياء البسيطة، ومن الأعمال الروتينية حد الملل؟ وكيف يمكن اقتناص الفرح والملذات الصغيرة بمواجهة جروح الحياة الكبيرة؟ لربما تأتي الإجابة من قصيدة شاعر الهايكو الكبير باشو: "بركة قديمة، ضفدع قفز، صوت الماء". هذه الفلسفة الشعرية نراها بوضوح في فيلم: (Perfect Days/ الأيام العظيمة لعام 2023) للمخرج الألماني فيم فيندرز الذي شاركه كتابة السيناريوالياباني تاكوما تاكاساكي) الذي حصد بطله كوجي ياكوشو (هيراياما)  جائزة أفضل ممثل في" كان"  (2023)

تعود فكرة الفيلم لدى فيندزر إلى الاحتفالية التي تقيمها السلطات اليابانية بيوم المراحيض العالمي، حيث يتتبّع يوميات عامل المراحيض هيراياما الهادئ واللطيف، الذي قارب منتصف عمره، من لحظة استيقاظه على صوت مكنسة عامل النظافة، ليشرع في روتينه اليومي بالنظر إلى الأشجار التي تظلّل نافذته، ثم قراءة سطر من كتاب قبل ان يداهمه التعاس النعاس وهو يقرأ، يحلق ذقنه وينظّف أسنانه، ويروي نباتاته الصغيرة، ويرتدي لباس العمل ويشتري قهوته، ويركب سيارته الصغيرة المكتظة بأدوات التنظيف، ليبدأ يوم عمله الطويل ترافقه الشمس من شروقها، ليشيعها في غروبها. هكذا يقلع هيراياما بسيارته وما أن يطل على برج شجرة السماء في طوكيو، حتى يدخل الكاسيت في فم آلة التسجيل لتصدح أغنية تتكلّم عن تلك الأيام الجميلة التي عاشها المغنّي. ينهمك هيراياما بعملية تنظيف المراحيض لدرجة الوسواس، لكن مع الوقت نلحظ أنّ هذا الوسواس، ليس إلّا تفانيًا في العمل، عندما يستخدم مرآة للتأكّد من نظافة الحواف الداخلية لكراسي المراحيض التي لا ترى بالعين مباشرة. إنّ هيراياما يستمتع بكلّ لحظة من عمله، قد يكون ذلك صادمًا لنا عندما نقوم بتنظيف قذارات الآخرين؛ وهذا ما يعبّر عنه زميله الشاب في العمل متأفّفًا من طبيعة هذا العمل، فلا يعترض عليه هيراياما إلّا بابتسامة. يقضي هيراياما استراحة الغذاء في باحة معبد، حيث يأكل طعامه بهدوء مراقبًا الأشجار والناس الغرباء. وعندما ينهي عمله يجد متعة في قضاء بعض الوقت وهو يغمر جسده بالماء الساخن في الحمام العام. وبعد ذلك يتوجّه إلى أحد المطاعم الشعبية وأخيرًا ينهي ليلته بقراءة كتاب لوليم فوكنر.
هذه اليوميات المتشابهة، يعيشها هيراياما بسعادة تامة، فوجهه يفيض حبورًا، حتى صمته لا يكسره إلّا بكلمات قليلة، كأنّه شجرة من تلك الأشجار المولع بتصوير ظلالها. لا يستخدم هيراياما أيًا من تقنيات العصر الحديث في عام 2023 فما زال يستخدم تلك الكاميرات بأفلامها السوداء، التي تحتاج إلى تحميض تحت الضوء الأحمر في غرفة مظلمة، ويستمع للموسيقى من أشرطة الكاسيتات، إنّه يعيش في زمن آخر. ينقل لنا فيندرز هذا الروتين يومًا بعد يوم حتى يأخذ من وقت الفيلم ما يقارب نصفه، ونظن بأنّ هيراياما أبدي في هذا التكرار السعيد حتى التشهّي بأن نكون مثله.
لم يكن يسدّ تدفق نهر الروتين البسيط والهانئ الذي يعيشه هيراياما أي شيء إلى أن تدخل حياته فجأة ابنة أخته المراهقة التي هربت من بيتها. وهنا نكتشف بأنّ علاقته بأسرته تشوبها تعقيدات عميقة، بل هو من أسرة ميسورة جدًا. تعجب الفتاة بعمل خالها وترافقه إلى تنظيف المراحيض، لتجد مادة لصفحتها على السوشيال ميديا. وعندما تسأله عن علاقته المعقّدة بأخته تخبره بأنّ أمها لم تكن ترغب بالتحدّث في ذلك، وعندما تأتي أخته بسيارتها الفارهة وسائقها لتأخذ ابنتها يحتضنها هيراياما. يعود بعد ذهاب ابنة أخته إلى روتينه، وهنا تتغيّر نظرتنا إليه، لنفهم أكثر كيف من الممكن جني السعادة عبر التخلّي عن كلّ المكتسبات مع شرورها والاغتناء بأشيائنا البسيطة، كأنّنا شجرة، أو نبتة صغيرة في أصيص، أو شعاع شمس، أو أغنية، أو صفحة من كتاب.  يواظب هيراياما على زيارة مكتبة تبيع الكتب المستعملة ليشتري منها ما يعجبه ويقضي وقتًا ممتعًا في مطعم صغير تديره أنثى تقاربه في السن، لكنّها مطلّقة منذ سبع سنوات. هناك إعجاب خفي بينهما، لكنّه يتعكّر، عندما يجدها تحتضن أحد الرجال، فيقود دراجته مبتعدًا، بعد أن يشتري الدخان ومشروبًا، ليذهب ويجلس تحت أحد الجسور في طوكيو. يتبعه الرجل الذي كانت سيدة المطعم تحضنه، ليظهر أنّه طليقها السابق جاء ليعتذر منها بعد انتشار السرطان في جسده وأصبح موته وشيكًا. يتقاسم الرجلان الدخان والمشروب وهنا يسأل هيراياما الرجل: هل الظلال تصبح أكثر كثافة عندما تتقاطع؟ يحاولان الوصول إلى إجابة، ويلعبان لعبة يحاول كل منهما فيها دوس خيال الآخر. وفي النهاية يطلب الرجل الغريب من هيراياما أن يعتني بطليقته. وينتهي الفيلم بالروتين، الذي اعتدناه من هيراياما في أول الفيلم بابتهاج مشرق ليوم جديد يعيشه.
 الفيلم الذي سيمثل اليابان في اوسكار 2024، هوما يشبه قصائد هايكو علينا قراءتها في الحياة البسيطة للطبيعة حولنا وفينا في تكرارها وروتينها المستمر إلى الأبد، وسيمثّل اليابان في أوسكار 2024.