البحث عن جمهور السينما الضائع

منصة 2024/01/08
...

 رضا المحمداوي

يُعَّدُ الجمهور، هو المقصد الأساسي للعديد من الفنون والآداب ومعها صنوف الصحافة والإعلام والقنوات الفضائية، قبل اتساع مفهوم الجمهور لتنضَّم إليهِ جماهير الأنترنت وتطبيقاته وعناوينه المتعددة والمتداولة بين أوساط المجتمع بما عادَ يُعرف بـ (السوشيل ميديا) حيث تضعُ هذه النتاجات الفنية والأدبية في حساباتها الأوَّلية دائماً وقبل تصديها للعملية الإبداعية ما يعرفُ اصطلاحا بـ (الجمهور المُستَهَدف)على رأس اهتماماتها وأولوياتها، إذ تعمل جاهدةً هذه النتاجات من فنون وآداب وصنوف الإعلام على تحديد نوعية أو شريحة أو فئة اجتماعية مُحددّة مُسبقاً، لغرض إيصال فكرة التلقي إلى ذلك الجمهور.
واليوم أتوقف عند ظاهرة جمهور السينما العراقي، الذي طالما تباكينا عليه ورفعنا يافطات التجني والظلم الذي لحق به، حيث لا دور سينما لهذا الجمهور الذي نفترضهُ متعطشاً لمشاهدة الأفلام السينمائية وارتياد صالات السينما، والاعتياد على تعاطي هذا الفن السينمائي في إطار عادات وتقاليد كانت مزدهرة في سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، قبل اختفاء هذا الجمهور أو انقراضه في العقود اللاحقة.
وفي ظل هذا الاختفاء التدريجي للجمهور الذي تزامن مع اختفاء دور السينما وانعدام ظاهرة مشاهدة الأفلام السينمائية العالمية والعربية على اختلاف أنواعها من التداول والترويج، برزتْ ظاهرة المهرجانات السينمائية العراقية الوطنية (ولا أحبذ تسميتها بالمحلية)، وانتشرت أسماؤها وعناوينها من شمال العراق إلى جنوبه، ومن بين أهم الموضوعات والقضايا الفنية التي إثارتها هذه المهرجانات، والتي تستحق الوقوف عندها ودراستها للتعرف على مميزاتها وخصائصها، تبرز ظاهرة (الجمهور السينمائي) الذي يحضر هذه المهرجانات ويتابع عروضها السينمائية، وخاصةً الأفلام الشبابية القصيرة وطابعها التجريبي الغالب على نتاجاتها الكثيرة المتكاثرة، والغرض من التوقف، هنا، لطرح الأسئلة من قبيل: ما هي أهم الشرائح الاجتماعية التي يتكوّن منها ذلك الجمهور السينمائي؟، وهل يحضر هذا الجمهور تلك المهرجانات بوصفها نشاطاً ثقافياً وفنياً أمْ هو مجرد حضور عرضي وإعجاب بالسينما وعوالمها الجميلة؟
ومن خلال تجربتي الشخصية المتواضعة عبر مشاركتي ببعض هذه المهرجانات، سواءٌ في عضويتي في لجان المشاهدة والفحص والفرز والتحكيم والتقييم، أو على مستوى متابعتي الفنية الشخصية وحضور أو مشاهدة العروض السينمائية الشبابية على وجه الخصوص، وجدتُ أنَّ هذه المهرجانات تفتقدُ إلى الجمهور الحقيقي الواسع العريض والجاد والحريص على المتابعة الفنية لتلك الأفلام، التي عادةً ما يوضع لها جدول فني للعروض يمتد لأيام. وفي ظل غياب الحضور الجماهيري لا يبقى لتلك المهرجانات سوى الفعاليات الإعلامية وخاصةً التغطية التلفزيونية، سواءٌ من خلال النقل المباشر أو عبر اللقاءات والمتابعة التلفزيونية البرامجية العابرة، وغالباً ما يتركز هذا الاهتمام الإعلامي-التلفزيوني في فعاليات الافتتاح والختام لتلك المهرجانات ومن ثم توزيع الجوائز المجانية و(الدروع- ألا لعنة الله على الدروع، واللعنة على مَن سنَّ بدعة الدروع كجوائز في الثقافة العراقية حيث تلك الصفائح الفارغة التي لا تغني من جوع أو تسد من فقر)!
وباستثناء الحفل الافتتاحي والختامي لهذه المهرجانات تبقى الأيام التي بينهما مجرد فراغ حقيقي، وليس هنالك من جمهور حقيقي يمكن أن يُعّول عليه في عملية التسويق أو الترويج لهذه الأفلام أو المشاركة الفعالة من خلال بطاقة الدخول المدفوعة الثمن، ولا أريد أنْ أطرح مفهوم (شباك التذاكر) في هذا السياق، لأنه من الصعب الإشارة إلى هذا الجانب الاقتصادي بجانبه التجاري في السينما العراقية، رغم أنه يعتبر حجر الزاوية الذي تعتمد عليه السينما العالمية في قياس مدى نجاح الفيلم أو فشله الجماهيري، وتعتمد عليه كذلك الجهات الإنتاجية في استمرار دوران عجلة إنتاج أفلامها التي لا تنقطع على مدى السنين.
إلاّ أن ظاهرة اختفاء الجمهور من صالة العرض السينمائي في هذه المهرجانات قد استفحلت وزادتْ من ظلالها المعتمة حتى زادتْ صالة العرض ظلاماً على ظلام ولمْ يتبقَ غير حزمة الضوء المنبعثة من جهاز العرض في تلك الصالة المظلمة والفارغة من الجمهور!؟
ولغرض إثبات المصداقية والموضوعية لما ذهبتُ إليه ومن أجل تقديم نموذج تطبيقي لهذا الجمهور فإني أقدّمُ هذا المشهد الخاص عن الجمهور وحضوره لأحد المهرجانات.
فقد لمستُ في حفل افتتاح مهرجان عيون للأفلام السينمائية الروائية القصيرة في إحدى دوراته، ظاهرة اختفاء الجمهور السينمائي المزعوم، فبعد الانتهاء من حفل الافتتاح الرسمي والنقل التلفزيوني المباشر لفعاليات الافتتاح، ومن ثم بدء عرض الأفلام السينمائية المشاركة فيه، بدأ جمهور الصالة بالانسحاب تدريجياً، ومع توالي عرض الأفلام، وهي أفلام قصيرة لا يتجاوز عرض البعض منها سوى دقائق معدودة، ازداد الجمهور انحسارا واختفاء، وما أنْ وصلتُ إلى مشاهدة الفيلم العاشر تقريباً  حتى اختفى الجمهور بالكامل من الصالة، وكأنَّ الظلام قد ابتلعه مثل أيّ مشهد من مشاهد الرعب أو أفلام الخيال العلمي.
 فقد ترك الصالة في البداية ضيوف الخط الأوّل وفرغتْ تلك المقاعد الرئاسية الوثيرة، وانسحب الفنانون والمخرجون والممثلون والمؤلفون وأصحاب الأفكار وغيرهم، وفجأةً وجدتُ نفسي وحدي في الصالة المظلمة مع مجموعة من الأشخاص المعدودين والمحسوبين على إدارة المهرجان والقائمين عليه.
هل كان الجمهور (المؤقت) الحاضر هو جمهور إعلامي-تلفزيوني يحضر من أجل التصوير التلفزيوني، أو التقاط صور (السيلفي) مع الأصدقاء والمعارف والأحبة، أمْ أنه جمهور جاء يبحث عن شيء ما في الأفلام التي قصد مشاهدتها ولكنه حينما لمْ يجدْ ما يبغي ويريد، وما يبحث عنه فإنه آثرَ ترك الصالة وذهب إلى حيث يريد، ليصدق هنا في هذا السياق ما قالهُ المنتج الأميركي (أدولف زيوكر): بأن الجمهور لا يخطئ أبداً.  يحدث كل هذا وفعاليات المهرجان مجانية، حيث (الدعوة عامة للجميع) وليس هناك من بطاقة دخول ولا شباك تذاكر، فماذا لو اعتمد هذا المهرجان وأمثاله على التمويل الذاتي وأرتأى دخول الجمهور ببطاقة مدفوعة الثمن، فهل سيبقى هذا الجمهور على حماستهِ وإصراره على الحضور ومتابعة تلك الأفلام؟
فمَنْ الجمهور المُستهدف الذي من أجله تُقام هذه المهرجانات؟ وقبل ذلك: مَنْ هو الجمهور المقصود مِن إنتاج تلك الأفلام السينمائية؟ وأين يتواجد هذا الجمهور الذي نفترض وجوده جدلاً؟ وهل هو جمهور مُعلقٌ في الهواء؟ وهل هو جمهور القنوات الفضائية أم جمهور الأنترنت "واليوتيوب والفيسبوك" وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي؟
إذن ما الجدوى الفنية من إقامة تلك المهرجانات، ولا أطرح هنا الجدوى الاقتصادية أو التكاليف المادية اللازمة لإقامة هذه المهرجانات وفعالياتها؟، وأحسبُ أنَّ أزمة جمهور المهرجانات السينمائية هي ذاتها أزمة جمهور تلك الأفلام: فلماذا تُنتجُ هذه الأفلام؟ ولِمَنْ تتوجّه؟ ورُبَّما من الصعب أن نسأل مَنْ يقوم بإنتاج هذه الأفلام، وهي غالباً ما تقوم على جهود فنية شخصية تنطوي على مغامرة لكنها تبقى نابعة من حُبّ حقيقي لفن السينما يدفع صاحبه إلى فكرة إنتاج فيلم لا يعرف مصيره، ولا يعرف كذلك مَنْ سيشاهد هذا الفيلم لتصل إليه رسالته وخطابه الجمالي والفكري.