مائة وثمانون سنة مضت ومازالت جيوب معطف أكاكي أكاكيفتش مليئة بالمشاعر الإنسانية ولم تبلَ رغم مرور كل تلك العقود والأزمنة، مائة وثمانون سنة مضت ومازال معطف أكاكي أكاكيفتش يعطي دورساً كي تحافظ الإنسانية على إنسانيتها، مائة وثمانون سنة مضت سقطت بها إمبراطوريات ودول وآيدولوجيات وفلسفات وما زال معطف أكاكي أكاكيفتش حيٌّاً قوياً وقادراً على العطاء. منذ عام 1848 ومعطف أكاكي أكاكيفتش يساعدنا على استشعار الرحمة في قلوبنا. المعطف كان ومايزال وسيبقى تهكماً صارخاً على مشاعرنا وقيمنا الاجتماعية المزيَّفة. المعطف هي رواية صغيرة للروائي الروسي الكبير نيقولاي غوغول. شكلت رواية المعطف نقطة تحوُّل مفصلية بالغة الأهمية في تاريخ الأدب الروسي والعالمي، كتبها غوغول بأسلوب ساخر كوميدي فريد. دخل غوغول في علاقة صداقة مع راهب في كنيسة متطرِّف في أفكاره الدينية واستطاع أن يقنعه بالهلاك بسبب الخطيئة في أعماله الأدبية، ومن تلك اللحظة دخل غوغول بحالة اكتئاب شديدة وتراجعت صحته. في 24 شباط 1852 قام غوغول بإحراق مخطوطاته الأدبية ومنها الجزء الثاني لروايته النفوس الميتة، وعد المؤرخون هذا اليوم من أسوأ أيامه على الإطلاق، بعد تسعة أيام عن عمر 41 عاماً فقط توفي غوغول على فراشه وكان قبلها رافضاً لتناول أي طعام. قبل رواية المعطف كان الأدب الروسي يتحدث عن الطبقة المرفَّهة في المجتمع فجاءت المعطف لتتحدث ولأول مرة عن الإنسان المقهور في المجتمع الروسي، ومن بعده بدأ الأدب الروسي يهتم بالطبقة المهمَّشة وعلى رأس هؤلاء الأدباء دستويفيسكي لدرجة أن دستويفسكي قال :” كلنا انحدرنا من معطف غوغول” “ إن الرجل الفقير أشبه بعارٍ وسط الشارع” أكاكي أكاكيفتش هو موظف بسيط في إحدى دوائر سان بطرسبرج رجل فقير وذليل، ووصفه غوغول بأنه رجل قصير القامة أصلع في مقدمة رأسه ضعيف البصر وله تجاعيد على خديه، مخلص في عمله الذي يتلخَّص بنسخ الوثائق، هادئ قليل الكلام، وبالرغم من ذلك كان يسخر زملاؤه منه طوال الوقت وكان يكتفي بالصمت، لا يغير ثيابه ودوماً هناك شيء متعلق بها كالقش أو لطخة من الألوان، مع اشتداد البرد شعر بألم في ظهره فتفحَّص معطفه ووجد أن بطانته تقطعت وفيه أكثر من ثقب، وأصبح رقيقاً، فذهب به إلى الخياط لكن الخياط يخبره عدم إمكانية إصلاحه لأنه سيتمزق حالما تلمسه الإبرة وبالتالي لا يوجد حل إلا أن يشتري معطفاً جديداً، هذا الخبر وقع كالصاعقة على أكاكي لعدم امتلاكه المال الكافي وهذا يعني أنه سيتجمد من البرد، فقرر أن يقتصد في نفقاته لدرجة أن يمتنع عن شرب الشاي وشراء الشموع ويستغني عن وجبة المساء ويمشي على أطراف أصابعه وبهدوء حتى لا يمسح الحذاء ويضطر لشراء غيره وذلك لمدة سنة كاملة حتى يستطيع شراء معطف جديد. في البداية واجه صعوبة على هذا التوفير لكن مع الوقت تأقلم وكان يواسي ويصبِّر نفسه بفكرة أنه سيشتري معطفاً جديداً ويتخلص من سخرية زملائه، وذهب مع الخياط وفتشا في كل بطرسبرج عن قماش جيد وبسعر مناسب حتى وجداه. حصل أكاكي على المعطف بعد معاناة كبيرة، ولبسه وهو سعيد لأنه يشعر بالدفء ولأنه لم يرتدِ شيئاً جديداً منذ سنوات، وحالما وصل الدائرة بارك له الزملاء بهذا المعطف الجديد حتى أن مساعد كبير الكتبة دعى أكاكي والجميع إلى حفلة صغيرة في منزله مساء، حاول أكاكي التهرب من هذه الدعوة لكنه لم يفلح وفكر أنها قد تكون فكرة جيدة لارتداء المعطف مرة أخرى. عاد مساءً إلى بيته وبدأ يقارن بين معطفه القديم والجديد وكان يضحك كلما رأى الفارق الكبير بينهما. مساءً ذهب إلى الحفلة وعلَّق معطفه وانضم إلى زملائه الذي حيّوه وباركوا له، ظل طوال وقت الحفلة يراقب الجميع ولم يشعر بالراحة وكان يرغب بالمغادرة لكن صاحب الحفلة أصر على بقائه فبقي حتى وقت متأخر. في طريق العودة اعترضه رجلان ضرباه وسرقا منه المعطف، أصيب بنوبة هستيرية من الفزع وصار يجري في الشارع وهو يصرخ حتى أن الشرطي حين علم قصته لامه على إهماله، ونصحته صاحبة المنزل فيما بعد بالذهاب إلى مفتش الشرطة الذي قابله بعد عناء طويل لكنه لم يظفر بشيء، في اليوم التالي ذهب إلى مكتبه بمعطفه القديم، وكان حزيناً جداً، فقرر زملاؤه جمع المال لشراء معطف جديد، لكن المال لم يكن كافياً، فنصحه أحد زملائه بالذهاب إلى رجل ذي سلطة طيب القلب، لكن هذا الرجل منذ أصبح جنرالاً صار مغروراً فما أن قابل أكاكي وعرف قصته حتى طرده من المنزل وعاد أكاكي إلى المنزل وأصابته الحمى وأخبر صاحبة المنزل بأن تشتري له تابوتاً من الصنوبر لأنه يشعر بأن نهايته اقتربت، وبالفعل اشتدت عليه الحمى وأصبح يهذي ويسب ويشتم في نومه وقبل كل شتيمة كان يصرخ يا صاحب السعادة. مات أكاكي ولم يشعر بالسعادة سوى لحظات قليلة قضاها وهو يرتدي معطفه الجديد. بعد موته انتشرت شائعة بأن شبحاً يجول في المدينة وتبدو هيأته كهيئة كاتب حكومي يقوم بنزع المعاطف من أصحابها. وصلت الشائعة إلى مسامع الجنرال الذي طرده فشعر بالذنب لاسيّما حين أرسل في طلبه لكنهم أخبروه أنه قد توفي، فتغير الجنرال وأصبح أكثر رأفة بالناس، وظلت صورة أكاكي الشاحبة تطارد الجنرال فقرر زيارة إحدى السيدات قبل العودة لمنزله علّها تنسيه أكاكي، وفي الطريق، شعر أن قوة تسحبه من الخلف وحين استدار رأى أكاكي الشاحب فاتحاً فمه وتفوح منه رائحة القبور، وقال له أخيراً وجدت ضالتي وفي لحظات معدودة أخذ أكاكي المعطف واختفى تاركاً الجنرال في حالة من الفزع والرعب وسرعان ما تلاشت قصة الشبح الذي يسرق المعاطف. غوغول أنهى قصته بشكل خيالي خارج عن المألوف، وكانت قصته وكأنها تحذير لأصحاب السلطة بأن حتى الفقراء يستطيعون أن يأخذوا بثأرهم ولو بشكل ميتافيزيقي. روح أكاكي استطاعت التمرُّد على العكس من أكاكي نفسه حين كان على قيد الحياة، وأن الانتقام هي غريزة عند الفقراء والأغنياء على السواء. يرى المؤرخون أن غوغول لو لم يكتب سوى هذه الرواية لكان كافياً أن يخلد إلى الأبد.