العوالم الممكنة في ماهية الموت

منصة 2024/01/14
...

 عبد الغفار العطوي

من أكثر الحقائق غير المنظورة، لكن آثارها واضحة التي يعانيها الكائن الحي، وتشكل جزءا مهماً من وجوده، يهدده بالخطر والفناء مفهوم (الموت) لهذا نشأ التساؤل لدينا لماذا نتعرض إلى الموت؟ فكرة نعاني من ثقلها، وتؤرق الجميع، لكن الإحساس بالموت على ما يبدو يتضاءل كلما تسافل الكائن الحي في سلم تطوره، ليس بسبب عقلنته لدى الإنسان وتعايشه مع المفهوم بحذر، أو يشكل عند بعض الكائنات الحية وسيلة من وسائل الحياة (الوحوش تفترس الأحياء الأضعف) إنما الإحساس بالموت يعتور أدق الكائنات وأصغرها حجماً (الفايروسات)، لأن الموت ليس هو  عملية فناء مؤلم، أو انتقال إلى نوع من العدم في منظور العلم، ولا هو تحول كيفي نحو عالم آخر في عرف الدين، بل هو عملية معقدة من التحولات المادية والنفسية تشكل مغزى الموت  باعتباره ظاهرة غير منفصلة عن ظاهرات الكائن الحي كالحياة والتكاثر والصراعات المرتبطة  بطبيعة الكائنات بما فيها الفناء، أو لأن الموت مرتبط بصلة معينة بالحياة؛ فلا يمكننا الجزم  بتفردهما في عملية التحولات التي يتعرض لها الكائن الحي في دورة التناوب، فلا الحياة ولا الموت بمقدورهما سيادة المشهد لذلك الكائن. يقول هايدجر إن أشد اقتراب يستطيعه المرء من الموت في وجوده المتجه نحو الموت باعتباره أمراً ممكناً، أشد ما يكون ابتعاداً عنه باعتباره شيئاً فعلياً).  في (مصطلحات الفلسفة الوجودية عند مارتن، هايدجر، محمد عناني) ربما هذا التعريف يكشف عن الغموض في التعامل مع ماهية الموت، بيري ساندرز في (اختفاء الكائن البشري) يربط الموت بأسلوب الحياة، فتكون علاقتهما واحدة، وإن كانت فكرة ساندرز هنا مختلفة في مقصده من (معنى الموت)، لكن الارتباط بين مفهومي الحياة والموت لا يتجاوز هذه الحدود التي يتوافق معها آشيل مبمبي في (سياسات العداوة) بتأكيده على إن سياسة أية علاقة لا تتم سوى بالصلة التي تطلقها السلطة: إما أن تقتل أو تدعه يعيش، والسلطة التي تنهي النزاع بين الموت والحياة في أيهما  الذي يقرر إنهاء العلاقة  لا تعتمد على أن الصلة هنا صعبة الفهم لا يمكننا الإحاطة  بمشكلاتها الانطلوجية. لهذا حينما طرح الفيلسوف لايبنتز (لانهائية العوالم الممكنة) كان يقترح في ذلك أصلاً هو إن عالمنا الوحيد الفعلي هو واحد فحسب من عوالم ممكنة لانهائية، إلا أن لا نهائية عالمنا تبدو أميل نحو حقل الميتافيزيقا، إن لم نقل من ضمن  ابتكار الخيال والوهم لدى الإنسان، وذلك بسبب عجزه عن فهم ظاهرة (الموت) نحن ندرك  بداية نهاية الموت التي تحدث لكائن نلحظه في النزع الأخير، لكن ما بعده نقف عاجزين عن تفسير ما يحدث، فالتكهن في هذه الحالة أمر جائز، نعم يشكل الموت ظاهرة من الظواهر الكثيرة  اليومية  للكائن (خاصة للإنسان) والأسباب التي تحدث ذلك الموت تعتبر تحديات له مستمرة تنحصر في ماهية موته، وتتعلق بمفهومي (الصدفة –الضرورة) من ناحية تساؤلاته: كيف حدث ذلك؟ ولماذا يحدث هذا؟ وكم يحدث طوال وجوده؟! لأن الموت ظاهرة وجودية لا يفطن لها الإنسان سوى حينما تقع، مع أنها تضغط دوما على كينوننه في النهاية. لكن هذه النهاية مثلما هي تبدو مختلفاً عليها، أي بين من يراها سعيدة أو محزنة، فإن الشكل الختامي للموت إن يكن صدفة أو ضرورة في منظور الفلسفة المادية، فإنه لا يعني في حقيقة الأمر مغزى الموت. الفيلسوف لايبنتيز حينما طرح تلك المهمة كانت تمثل بداية لتساؤلات عميقة في الفلسفة والمنطق والرياضيات والأدب في ديمومة العلاقة بين الموت/ الحياة لا نزاع فيه.
أتذكر إن الفيلسوف الفرنسي المعاصر جورج بتاي في كتابه (الإيروسية) له نظرة في إن الموت هو ليس نهاية الحياة بل بدايتها، لأن العلاقة بينهما واردة، ولا يمثل الموت بالصدفة، أو الموت بالضرورة عائقا في شعور الإنسان وحده بمسألة الفناء أو العدم، لاعتقاد أغلب المعنيين من الباحثين المفكرين بمسألة التحولات في منازل الموت. ففلسفة مايكل دوميت  للمنظور اللاواقعي حالت دون وقوع الفكر البشري خارج المنظور الديني بإشكالية الموت الفنائي (العدمي) فطور فكرة لايبنتز في العوالم الممكنة من جانبها المنطقي، من ناحية تعميقه لدراساته في تاريخ الفلسفة التحليلية، ومساهماته في الدراسة الفلسفية للمنطق واللغة والماورائيات.
لقد أثبتت دراساته وكتابات غيره على احتمالية إمكانية العيش في عوالم مختلفة بطريق التنقل من خلالها تشبه نظرية الأكوان الموازية التي ذكرها أينشتاين في طروحاته العلمية، وإن لم تؤخذ الفكرة على محمل العلم، بل سرت في أعطاف الخيال العلمي، لذلك تطرق هانز ريشنباخ في كتابه (نشأة الفلسفة العلمية) في جذو الفلسفة التأملية  نحو ضرورة أن يشترط  في أن يرتبط التفكير المجرد على نحو ما، بما تراه عينه وتسمعه أذنه، مما جعل منظور مفهومي الموت والحياة يتلقيان جرعات من كبار الفلاسفة والعلماء في الحداثة وما بعد الحداثة من التنظيرات والأبحاث التي تقر بإمكانية أن يكون (الموت = الحياة).  كتب عالم الاجتماع زيجمونت باومان في سوائله (الحداثة السائلة – ومعقباتها)، موضحاً إن العلاقة المعقدة بين الحب والموت في كتابه (الحب السائل من هشاشة الروابط الإنسانية) ص36، بقوله إن الحب والموت الشخصيتان الرئيستان في هذه القصة، قصة بلا حبكة ولا  نهاية، فالحب والموت شيء واحد وسط روابط إنسانية هشة، في عالم يتعايش مع اللايقين. ويبين باومان في كتابه (الخوف السائل) ص 46، أن الاحساس بالخوف هو الذي يجعلنا نتصور مسألة فنائنا حقيقة، وإن لا وجود لموت يؤدي نحو الفناء، فنحن مادة  في حيزالأزلية محفوظة (نهاية كل شيء من الإنسان إلى الكون تأليف كريس أمبي). لهذا بدا مايكل دوميت يلوح في دراساته عن المنظور اللاواقعي، عندما تقبل اطروحة المعنى والاستعمال (في مقاربات اللغة)  ولم يقبل فكرة إن المشاكل التراتبية لابد أن تهجر لا أن تحل الأمر الذي طرحه فتغنشتاين بشدة،  كان يتوقع إن توافقاته مع فتغنشتاين في العلاقة بين المعنى والاستعمال تعطي لفكرة التعدد في العوالم الممكنة المنطقية اتساعاً ملحوظاً، كي تحقق صحة تلك الدراسات، أي أن لا موت  واقعيا، في عالم لا يقيني.