عثمان الموصلي.. أغان وإنشادات وحياة

منصة 2024/01/15
...

  باسم عبد الحميد حمودي


قدم ابراهيم أحمد تجربة جديدة في السرد الروائي التوثيقي لحياة واحد من المبدعين الكبار في الموسيقى والإنشاد الديني، الذي تحولت معظم الحانه إلى أغان وانشادات جماهيرية أخذها عنه المغنون الآخرون، وصنعوا من الميلودي الديني وشطحات الصوفية وموسيقاهم تجارب حديثة في الأداء الموسيقي الغنائي، مثل (طلعت يا محلى نورها) و(ياشادي الألحان) و(زوروني في السنة مرة) و(يا أم العباية) ومئات المقطعات غيرها.

كان في مقدمة تلامذة عثمان الموصلي سيد درويش، الذي رافقه في دمشق وداود حسني في القاهرة وعشرات المؤدين والملحنين والدراويش، الذي كانوا يزورون موقعه في الجامع النوري في الموصل، أو في خلوة محيي الدين بن عربي عند جبل قاسيون في دمشق أو مجالسه في القاهرة واسطنبول.

عنوان الرواية الثاني هو (أوتار العكاز) وقد صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة، ووثقت بدقة تاريخية تحيط بلغتها شعرية أداء الكاتب وجمال لغته المشرقة ووصوله إلى ما أعتقده خوافي النفس المعذبة لعثمان، الذي ولد جميلا في محلة جامع النوري وتعايش، وهو صبي مع صفيه وراوي الجزء الأكبر من فصول الرواية زميله بهاء القزاز، الذي روى واقعة عمى عثمان، وهو صبي بسبب مرض الجدري الذي اجتاح الموصل ووفاة حبيبته الصبية مهجة التي كانت تصاحبه وبهاء وتحيطه برعايتها. 

كان عشق البراءة الأولى، لكن عثمان لم ينسها مطلقا، وهو يتنقل من موقع لآخر ومن مدينة لأخرى.

ابراهيم أحمد بذل جهدا فنيا وتاريخيا كبيرا، ليحيط بتفاصيل حياة الموسيقار الكبير وتقلباته السياسية، بين عداء السلطة العثمانية الحاكمة إلى تمثيله السلطان عبد الحميد الثاني في ايفاده إلى ليبيا، لدعوة ملكها للتضامن مع السلطان ضد الرياح الاستعمارية القادمة، ثم مقاومته وهو في دمشق لبطش جمال السفاح الوالي العثماني على سوريا.

لم تنفع له رجاءاته لجمال بايقاف تنفيذ الإعدام بحق الشبان العرب في دمشق وبيروت، ولم تشفع لقاءات الأمير فيصل ونوري السعيد له قبل هذا، فقد كان جمال السفاح قد استأسد هو ومجموعة جماعة (الاتحاد والترقي) الطورانية، بعد قيامهم بخلع السلطان عبدالحميد وتنصيب شقيقه محمد  بديلا مناسب يأتمر بأوامر قادة كتلة (طلعت- جمال) وتوابعهما.

خارج أحداث الرواية نقول إن "قائد الانقلاب العسكري على عبد الحميد الثاني لعزله هو الجنرال العراقي المشير محمود شوكت باشا وزير الدفاع والشقيق الأكبر للسياسي العراقي حكمت سليمان، أول رئيس وزراء عراقي يشارك الجنرال بكر صدقي في انقلاب عام 1936 في العراق، وهو أول انقلاب عسكري في العالم العربي.

اغتال الانقلابيون محمود شوكت بعد تنفيذه لمخططهم في عزل عبد الحميد المنفذ لمخطط الدول الكبرى المشاركة مع يهود الدونمة، لإبعاد السلطان الفردي الحكم ذي التوجه المعادي لمخطط  السيطرة على مقدرات الدولة العثمانية وتفتيتها، وتمكين قادة الصهاينة من تنفيذ مخططهم الاجرامي بقلب الواقع الديموغرافي في فلسطين وجعلها- قسرا- أرض الميعاد ودولة (اسرائيل)،  وكان هذا المخطط قد بدات به الحركة الصهيونية العالمية عند اكتمال تنظيمها في مؤتمر بازل، حيث قامت بعد هذا بمناشدة عبد الحميد الثاني، عن طريق المالي الكبير روتشيلد وقائده الفكري هرتزل للسماح لليهود بتفويج  الراغبين إلى ارض فلسطين بالدخول بحرية، تمهيدا لانشاء الكيان الموعود الذي لم يعلن في حينه.

كان رفض عبد الحميد ذلك سبباً في تشويه سمعته دوليا وتحريك الوسط العسكري المناوئ له حتى تم عزله.. وكان عثمان الموصلي واحدا من الرجال المحترمين دينيا وفنيا الذي اختارهم عبد الحميد في بعثات دبلوماسية إلى عدد من الأوساط السياسة والحكام في أصقاع اخرى.

 لم تتحرك الرواية على شكل متعرج يضيع الدليل المنطقي للأحداث، بل انسابت التفاصيل بشكل رقيق اخلطت في لواعج الملا وتصرفاته الفنية المذهلة، التي انتجت مئات الألحان والتقاسيم  والبشارف الدينية، وهو يؤدي طقوس الرقصة المولوية، أو ينشد وجيدا ساعات الاسحار.. لا يهمه زمان ولا مكان إذا تفجرت موهبته في أي وقت وأوان.

 نذر عثمان الموصلي ذاته إلى مجد الصفاء الإنساني وهو يردد لغة الطير والأشجار، ويصنع من حوافها وتردداتها أطيب الالحان الصوفية التي حولها الكثير من تلامذته إلى مقاطع غنائية شعبية ركبوا على موسيقاها كلمات جديدة غير التي أنشاها عثمان.

تتابع رواية (أوتار العكاز) رحلات عثمان الموصلي إلى كل أرض أحبها وعاش في مساجدها وتكياتها حتى أنه وجد نفسه أحيانا في طاحونة صفي له بالموصل، وقد ركب عودة ليغني لحصان الطاحونة مقاما جديدا أبتكره!  وبعد فرواية (عثمان الموصلي – أوتار العكاز) قدمت عكاز الأعمى الذي صاحبه في جولاته في كل العواصم والمساجد والمسارح  والقاءات الدينية والحفلات العامة، وكان العكاز يصاحب ذلك البصير المتمكن في الوصول إلى ألحانه، وفي صناعة حياة عاصفه أصدم فيها بالولاة والسلاطين تارة، وسايرهم حينا لسبب أو لآخر.

كان عثمان الموصلي صديقا لفيصل الأول ونوري السعيد، وقد سكن بغداد أواخر حياته حتى رحيله، ولم توفر رواية الاستاذ ابراهيم أحمد أي تفصيل دقيق عن حياة سيد اللحن والأداء الموسيقي العالي، إلا وخصصت له جزءا، حيث تسلسلت حركة الرواية بتفصيلات شيقة تسحب القارئ اليها متمتعا باسرارها التي صنع منها الروائي مادة سردية مهمة تجلت في شكل الرواية وبنائها الناجح.