آثار بلاد الرافدين.. سجلٌ محفوظ

علوم وتكنلوجيا 2024/01/15
...

 ديفد بريسان

 ترجمة: أنيس الصفار


استطاع فريق دوليٌّ من الباحثين إعادة بناء خارطة التغيرات التي شهدها الحقل المغناطيسي للأرض على مدى ثلاثة آلاف عام الماضية من خلال الاستعانة بالآثار المغناطيسيَّة المحفوظة في حبيبات أوكسيد الحديد الدقيقة في تكوين الطابوق الطيني الأثري القديم من بلاد ما بين النهرين.

الى جانب تحسين أبعاد فهمنا لتلك التغيرات التي مرّ بها الحقل المغناطيسي للأرض خلال فترات زمنيَّة قصيرة (بالمقاييس الجيولوجيَّة) يأمل الفريق أيضاً أنْ تساعد هذه "المغناطيسيَّة الأثريَّة"، التي تتحرى بصمة الحقل المغناطيسي الأرضي المودعة في القطع الأثريّة، على تحديد أعمار قطع لم يكن بالإمكان تحديد تاريخها من قبل.

يمضي البروفيسور "مارك الطويل"، وهو من معهد علم الآثار في جامعة لندن ومشارك في الدراسة المذكورة، موضحاً: "لأجل الحصول على شعور بالتتابع الزمني نستعين في كثيرٍ من الأحيان بطرقٍ نحدد بها التاريخ، مثل طريقة الكاربون المشع. لكن بعض المخلفات الثقافيّة الأكثر شيوعاً، مثل الطابوق والسيراميك، لا يمكن إعادة تحديد تاريخها بسهولة لأنها لا تحوي في تكوينها موادّ عضوية كاربونية. هنا يساعدنا هذا العمل على وضع خط أساسٍ مهمٍ لتحديد التواريخ باستخدام "المغناطيسية الأثرية" يتيح لآخرين غيرنا الاستفادة من التحديد التاريخي المطلق.

تضعف قوة الحقل المغناطيسي للأرض أو تشتد مع مرور الزمن، وهذه التغيرات تخلفُ بصماتٍ مميزة على المعادن المتحسسة للمغناطيسيَّة. وعندما تهبط الحرارة الى ما دون درجة معينة (تسمى درجة حرارة كوري) تتخذ هذه التغيرات وضعاً ثابتاً الى الأبد في البناء البلوري للمعدن. فالقطع التي ينتجها الإنسان، مثل الطابوق والأواني الخزفية، تصنع من الطين الغني بأوكسيد الحديد. بعد ذلك يفخر الطين تحت درجات حرارة تتجاوز 500 درجة مئوية، وهي حرارة كافية لمحو أي بصمات مغناطيسية متخلفة من حقب سابقة. وعندما تبرد القطعة المصنوعة تدريجياً تسجل معادن الطين اتجاه الحقل المغناطيسي في زمن صنع القطعة الأثرية وقوّته وتبقى محتفظة بهما الى الأبد.

قام الباحثون بتحليل البصمة المغناطيسيَّة المودعة في 32 قطعة من الطابوق الطيني مأخوذة من مواقع أثريَّة مختلفة في بلاد ما بين النهرين.

كل قطعة طابوق من هذه كان منقوشاً عليها اسم الملك الحاكم خلال الفترة التي صنعت فيها. وعند جمع أسماء الملوك وفترات حكمهم الى قوة الأثر المغناطيسي المودع في حبيبات أوكسيد الحديد نخرج بخارطة تاريخيَّة تظهر التغيرات التي طرأت على قوة الحقل المغناطيسي للأرض.

استطاع الباحثون تأكيد حدوث ما يسمى "الشذوذ المغناطيسي الأرضي خلال العصر الحديدي المشرقي"، وهي فترة اشتدت فيها قوة الحقل المغناطيسي الأرضي لأسبابٍ مبهمة الى درجة غير اعتيادية في المناطق التي تسمى اليوم العراق الحديث، وذلك ما بين عامي 1050 و550 قبل الميلاد. الأدلة على حدوث ذلك الشذوذ أمكن تقصيها في مناطق بعيدة مثل جنوب غرب أوروبا والصين وبلغاريا وجزر الآزور، بيد أنَّ البيانات التي استخرجت من الأنحاء الجنوبية من الشرق الأوسط نفسه كانت قليلة ومتناثرة. وهناك اليوم شذوذ مماثل في المغناطيسيّة الأرضية في مناطق أميركا الجنوبية والمحيط الأطلسي.

لدى إسقاط التغيرات التي شهدها الحقل المغناطيسي للأرض مع مرور الزمن على الخارطة توفر هذه البيانات لعلماء الآثار وسيلة جديدة تساعدهم في حصر تاريخ بعض اللقى والقطع الأثرية بدقة أعلى. إذ إنَّه من الممكن قياس الشدّة المغناطيسية لحبيبات أوكسيد الحديد المودعة في تلك القطع المفخورة بالنار والمجهولة العمر ثم مطابقتها مع درجات الشدة المعلومة لدينا للحقل المغناطيسي التاريخي للأرض. عهود حكم الملوك لا تمتد لأكثر من سنوات أو عقود، وهذا يوفر دقة تحديد أفضل من الكاربون الذي لا يمكنه حصر عمر القطع الأثرية لمدى أضيق من بضع مئات من السنين. 

يقول الباحث الرئيسي في الدراسة، البروفيسور "ماثيو هاولاند" من جامعة ولاية ويشيتا، مبيناً: "عن طريق مقارنة القطع الأثرية القديمة مع ما نعرفه اليوم عن الظروف التي مرَّ بها الحقل المغناطيسي قديماً يمكننا تقدير تواريخ أي قطعٍ أثرية تعرضت للتسخين ثم التبريد في تلك العصور الغابرة".

غالباً ما ينظر الى الأحداث الشاذة، مثل اشتداد الحقل المغناطيسي للأرض أو خفوته في موقعٍ معينٍ بالذات، على أنّها أدلة محتملة على تحول أشد وشيك الوقوع في هذا الحقل. 

تفيدنا وكالة ناسا الفضائية أنَّ هذه الانقلابات المتكررة للأقطاب المغناطيسيّة أمرٌ شائعٌ في تاريخ الأرض، حيث تبادل القطبان المغناطيسيان مواقعهما 183 مرة على الأقل خلال 83 مليون سنة الأخيرة. وقد وجد الباحثون في خمس عينات مأخوذة من عهد الملك نبوخذ نصر الثاني، الذي حكم للفترة 604 الى 562 قبل الميلاد، ان الحقل المغناطيسي للأرض قد مرّ بتغيرات كبيرة جداً كما يبدو لكنه لم يلبث أنْ عادَ الى المستويات الطبيعيّة بعد ذلك بفترة وجيزة.

تخلص البروفيسور "ليزا توكس" المشاركة في الدراسة، وهي من معهد سكربس لعلوم البحار، الى أنّض الحقل المغناطيسي الأرضي هو إحدى أشد الظواهر غموضاً في علوم الأرض. وتضيف توكس أنَّ البقايا الأثريَّة المؤرخة بشكلٍ جيدٍ لثقافات بلاد ما بين النهرين الغنية، لا سيما الطابوق المنقوش بأسماء ملوك محددين، توفر فرصة غير مسبوقة لدراسة التغيرات في شدّة هذا الحقل بدقة زمنية عالية من خلال تتبع التغيرات التي وقعت خلال عدة عقود او حتى أقل.


عن مجلة "فوربس"