المكفوفون.. اصرار جارف على الحياة
فجر محمد
لم يكن الموقف المؤلم الذي تعرض له سعد زامل بالبسيط، او يمكن نسيانه بسهولة، بل سبب له صدمة وانزعاجاً كبيرين، حاول في ما بعد تجاوزهما، اذ ليس لهذا الشاب الطموح ذنب سوى أنه كان يود أداء امتحانه الجامعي، ومن المفترض أن يوفر له من يكتب عنه، او على أقل تقدير يساعده، وفقا لقانون 38 لعام 2013 الذي يقتضي بتوفير جميع المستلزمات والاحتياجات لذوي الاعاقة.
ويروي سعد الموقف الذي تعرض له بكل أسى وحزن قائلا: «جلست انتظر في قاعة الامتحان أوهموني أن الذي أمامي هي ورقة الامتحان، ليتبين لاحقا أنها فارغة، وبعد مضي أكثر من نصف ساعة حاولت أن أتحدث مع أي شخص، ولكن دون جدوى لم يجبني احد». في هذه الأثناء اكتشف سعد أن وقت الامتحان قد انتهى، ولم يكن هناك أي أستاذ او طالب موجود، فقد غادر الجميع مدرجات الكلية. ما زال وجع تلك اللحظات يرافق سعد، على الرغم من محاولته تجاوز هذه الذكرى الأليمة، لكنه في يومها كان يشعر بالحزن والأسى حتى كاد يفقد حياته، فقد كان يعبر الشارع دون وعي، او حتى مساعدة ما حسب وصفه.
بعد أن اقر مجلس النواب قانون رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، وصادقت عليه رئاسة الجمهورية ـصبح من المفترض، ان يتم العمل بهذا القانون الذي يحمل رقم 38 لعام 2013 الذي يقتضي بتوفير مختلف الوسائل، بدءا بالرعاية الشاملة، وضمان حقوقهم وصولا إلى دمجهم بفئات المجتمع الاخرى وتنمية قدراتهم، وجعلهم أفرادا فاعلين في المجتمع. غير أن ذوي الاعاقة البصرية لم يحصلوا على ثمار هذا القانون لغاية الآن.
بحسب التقارير الاعلامية المتداولة فإن العراق من بين الدول التي تخلف ضحايا باستمرار، خصوصا ذوي الاعاقة، ومن الجدير بالذكر أن عدد المكفوفين في العالم بالسنوات المنصرمة كبير جدا، وفي العراق وبظل الحروب والصراعات والانفجارات، التي خلفت ضحايا عدة، يعتقد أن عدد المكفوفين وصل إلى 300 ألف وفق احصائية لعام 2008، ولم تتوفر اي احصائيات حديثة لغاية الآن، تبين فيها أعداد فاقدي البصر في البلاد.
تحديات كبيرة
كتب الرياضيات والكيمياء والفيزياء تحتوي على رموز، وعلامات ومعادلات وعناصر نبيلة وزمر، وغيرها من المفردات المألوفة التي يتعامل معها الطالب كل يوم، لكنها غريبة وغير مفهومة بالنسبة للطالب زين العابدين راهي، الذي لم تتوفر له الأساليب التي تعلمه كيفية كتابتها على الرغم من أنها مفروضة عليه وعلى أقرانه، يشكو هذا الطالب الطموح من غياب وسائل الايضاح وأدوات التعليم الحديثة داخل المدارس الحكومية، اما في ما يخص الآلية التي يدرس بها زين العابدين وزملاؤه يقول: «ندرس وفقا لنظام الاستماع، ونعتمد على ذوينا واساتذة خصوصيين، فضلا عن اليوتيوب».
لم تعد دول العالم المتقدمة تستخدم لغة برايل التقليدية، فقد قام مخترعان ربطتهما علاقة صداقة وثيقة ببعضهما إلى ايجاد نظام جديد اسمه موسكي بالتعاضد مع برايل المعروفة، فقد وجد هذان المخترعان أن العالم الحديث والاجيال الجديدة لم تعد تكتفي ببرايل التقليدية، وإنما تسعى إلى لغة محوسبة والكترونية توفرلذوي الإعاقة مايحتاجونه من تعليم حديث وتواصل مع العالم.
يوم برايل العالمي
اقرت الجمعية العامة للامم المتحدة شهر كانون الثاني والرابع منه تحديدا، يوما عالميا للاحتفاء بالمكفوفين وذوي الاعاقة البصرية، عرفانا منها واستذكارا لبرايل، الذي تدين له البشرية بإيجاد لغة خاصة للمكفوفين، ومنحهم وسيلة مهمة، كي يعبّروا عما في دواخلهم ويدرسوا ويندمجوا مع ابناء مجتمعاتهم، وتنبع اهمية المناسبات الدولية من رغبة المنظمات والامم المتحدة إلى إرساء ثقافة الاعتراف بالاخر، والاهتمام بقضايا معينة تحتاج إلى جهد جماعي ووقفة كبيرة من المجتمع.
شرع مجموعة من المتطوعين من بينهم مكفوفون إلى إنشاء قناة على الفيسبوك واليوتيوب، في سبيل مساعدة أقرانهم ذوي الاعاقة البصرية، وعن هذا المشروع يقول المدير السابق لجمعية رعاية المكفوفين والمدرب المتخصص والمشارك في هذا المشروع الانساني لؤي السعداوي: «إن هذه القنوات التعليمية تهدف إلى تبسيط المواد العلمية ومساعدة المكفوفين، في مختلف المراحل والمواد الدراسية». ومن يتابع القنوات سيجد تحديثا مستمرا للمناهج العلمية، وعبر الاستماع لتلك المواد، كي يتمكن الطالب الذي يعاني من إعاقة بصرية ان يواصل تعليمه، ويتفوق في مسيرته العلمية.
لجانٌ طبيَّة
هل من المعقول أن تكون طريقة تقديم المكفوف للامتحانات مشابهة لنظيره المبصر، قد يتبادر إلى الاذهان هذا السؤال، وربّما الاجابة الواقعية أنه غير من المعقول أن تتشابه الآليات، لكن في بلادنا نعم هي تتشابه ففاقد البصر يتساوى مع نظيره المبصر، ويجب أن يقدم على الامتحان بالآلية نفسها، وهذا الأمر سبب غضبا وانزعاجا لعمار صالح، هذا الشاب الذي يسعى دائما إلى التفوق والنجاح، غير أن العقبات التي تعترض طريقه احيانا ما تُفَتِرُ من عزيمته، وليس هذا وحسب بل يعاني عمار من العمل الرتيب والبطيء التي تقوم به اللجان الطبية الفرعية، التي تمنح مواعيد بعيدة ومخيبة لامال المكفوف، الذي يود احراز التفوق في دراسته باسرع وقت. وليست هذه المشكلات وحسب، بل انعدام البيئة المناسبة لذوي الاعاقة البصرية، كي يؤدوا امتحاناتهم بكل يسر وسهولة.
تطوير الذات
كان يمارس مهنته بكل حب وشغف، ويقوم بتدريس الطلاب مادة الرياضيات غير أن حادثاً تعرض له مرتضى حسين الربيعي افقده البصر، وخسر معه تلك المادة العلمية التي شغف بها لفترات طويلة وأجبر على التحول لمادة انسانية اخرى(الاسلامية)، في حين تمنح الدول الاخرى المكفوف الامكانية لتدريس اي مادة بعد أن تقوم بتدريبه، ويستشهد الربيعي بمقولة للإمام علي (ع) «وتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر»، اذ يرى أن ذوي الاعاقة البصرية جزء لايتجزأ من المجتمع ويستحقون أن ينالوا فرصتهم في التعليم وتطوير الذات، وان توفر لهم الجهات ذات العلاقة كل الوسائل والآليات التي تساعدهم، وان يتم دعمهم واسنادهم اجتماعيا واقتصاديا.
من الظلام إلى النور
يعتقد سجاد كاظم أن من اروع الاختراعات واكثرها انسانية في العالم، هي لغة برايل التي حولت المخراز والجلد اللذين كانا سبباً لآلام وظلام عيني لويس إلى الوسيلة العظيمة لإنارة درب ملايين المكفوفين بنور العلم الثمين عبر السنين، ويروي كاظم قصة برايل مخترع الكتابة للمكفوفين اذ يقول: اجتمع الأهل والأصدقاء في مساء 4 شباط 1809 في منزل صانع أحذية من البسطاء اسمه برايل في كويفري سين مارن على بُعد 35 كم من باريس ليهنئوه بميلاد أول طفل له اسماه لويس. عندما بلغ لويس الثالثة أخذه أبوه إلى مكان عمله وكان يراقب أباه، وهو يُقطّع الجلود مُستخدماً سكينته الحادة، فأراد الطفل أن يقلد أباه فأخذ مخرازاً وحاول أن يقطع به قطعة من الجلد، ولما كان الجلد سميكاً أمسك لويس المخراز بكلتا يديه وضغط عليه بكل قوته فانفلت المخراز فجأة وانقلب إلى أعلى حيث انغرس بكامله في عين لويس اليُمنى.
هرع برايل وزوجته إلى تخفيف الألم فحملوه إلى مستشفى قريب حيث أخبرهم الطبيب وهم في ترقب أن العصب قد أصيب والعين اليُمنى لن تشفى، وقد فُقدت نورها بالكامل وأنه سيفقد اليُسرى بعد أيام. ولم يمر شهر من الزمان حتى احاط الظلام بالصغير برايل.
لكن الصبي تفوق دراسياً بعد ان اخذه والده إلى المدرسة، وكان ترتيبه أول القائمة رغم صعوبة القراءة بطريقة الحروف القائمة آنذاك، وبرع أيضاً في الموسيقى حتى أنه لما بلغ الخامسة عشرة عمل كعازف للبيانو في أكبر كنيسة في باريس. ثم عين مدرساً في المدرسة نفسها التي أنهى بها دراسته، وكان دائماً يشعر بمعاناة تلاميذه من صعوبة القراءة بطريقة الحروف القائمة، حتى كرس لويس لياليه ولعدة أعوام على التوالي، ليفكر في طريقة اسهل بالنسبة للمكفوفين، وهكذا أوجد لغة برايل التي انارت درب الكثيرين. يستلهم سجاد وزملاؤه عزمهم وثباتهم من هذه القصة دائما، ومن يلتقي بهم سيجدهم مليئين بالطموح والارادة ويسعون دوما إلى احراز النجاح والتقدم، ولكنهم ينتظرون من الجهات المسؤولة أن تمنحهم اهتماما وتوفر لهم مايحتاجونه في رحلة كفاحهم ضد الظلام والعتمة.