قطار لا أعجب منه ولا أغرب هو الذي كان يقلنا من منطقة العظيم صعوداً الى سلسلة جبال سفين، فقد كانت له مروحيات عملاقة وتسعة أجنحة من فصيلة الطائرات، ولم تكن له عجلات أو سكة لأنه يعتمد في سيره على عددٍ من الأسلاك الكهربائيَّة، ولذلك ما كان يسير كما تسير القطارات، ولا يحلق في الفضاء كما تحلق الطائرات، هو ليس على الأرض ولا في السماء، وكنتُ من بين ركابه الذين لا يحصون ولا يعدون عندما داهمه سيلٌ غاضبٌ مصحوبٌ برياح عاتية، جعلت عرباته العامَّة والخاصة تتدحرج الى أنْ هوت في وادٍ صخري عميق، ولم تلبث أجسامنا من الجنسين ومن الأعمار كلها أنْ تناثرت الى أشلاء!
تلك هي بداية الكابوس، وبعدها لم نعرف كم استمر موتنا الجماعي يوماً أو مئات القرون حين سمعنا منادياً ينادي (يا أهل هذه البلاد التي تدعى أرض الخير والسواد، انهضوا فإنَّه يوم الحشر والحساب، ولن ينهض إلا من عاش بعد 14 تموز 1958) وما هي إلا أدنى من رمشة العين حتى التأمت عظامنا وعضلاتنا، فإذا الملايين يغادرون أماكنهم حفاةً عراة وينتظمون في خمسة طوابير، كان أطولها الطابور الخامس، وعجبت من الناس، لا ينظر أحدهم الى عورة الآخر لأنه منشغل بعورته (المقصود بالعورة هو الخطأ، وإلا انتقلت مشاهد الكابوس وأماكنها من الوديان والجبال الى نادي العراة)!!
نادى المنادي على الطابور الأول (أنتم يا شهداء الحب وضحايا الحروب وعنف الرجال وقسوة النسوان.. هيأ الله لكم ما يطيب الخواطر وتشتهي النفوس... وذلك جزاء الصابرين والصابرات)، وخاطب الطابور الثاني – وكنت من ضمنه – (أما أنتم يا من احتملتم قهر الأنظمة وجور الحكام، ويا من أعدمكم الطغاة أو حصد الإرهابيون أرواحكم، ويا من أمضيتم حياتكم في جحيم المتاعب)، وذكر قائمة طويلة من بينها متاعب الدستور والفدرالية والأقاليم ومجالس المحافظات والديمقراطية والاحزاب... الخ، قبل أنْ يختم كلامه قائلاً (فهنيئاً لكم الجنة، قصور من ذهب وحوريات لا أحلى منهن ولا أجمل وأنهار من لبن وخمر وعسل، وموطن للعيش الكريم ليس فيه انتخابات ولا تزوير ولا أصابع بنفسجية ولا فساد) ثم جاء دور الطابور الثالث، وقد أدركنا من نداء المنادي انه يضم رجال الدين، حيث خاطبهم (هنيئاً لكم الجنة التي كنتم توعدون، فقد وهبتم حياتكم للعبادة والنصيحة، وحاربتم الطائفيَّة وأدعياء الدين، وعرضتّم أنفسكم للخطر، فكان منكم القتيل والسجين والمعذب، ولم تساوموا على كلمة الحق) وتعالى التهليل والتكبير والحمد والشكر وكأنهم في صباح من صباحات العيد، وبعدها حلّ دور الطابور الرابع الذي ادركنا انه يضم رجال الدين كذلك، حيث خاطبهم المنادي (ورب العزة انتم اسوأ من القاتل العمد وان لم تقتلوا، اتخذتم الدين وسيلة الى الرئاسة وانشغلتم عن صلاح الامة بالسياسة تعلنون مالا تضمرون، وتقولون ما لا تفعلون، فذوقوا العذاب العسير الى جهنم وبئس المصير) وفجأة توجه الصوت نحوي مهدداً، وكأني به صوت زوجتي (أرح نفسك وارح العباد من هذه الكوابيس والا...) ونهضت مرعوباً، ويبدو ان الشجاعة خانتني حتى في النوم، فلم اسأل عن مصير الطابور الخامس لأنّ معظم اعضائه رؤوس كبير يقتضي الحذر منها في اليقظة والحلم على حد سواء!!